اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ [سورة الرعد:2].
يخبر الله تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه أنه الذي بإذنه وأمره رفع السموات بغير عمدٍ، بل بإذنه وأمره وتسخيره رفعها عن الأرض بعداً لا تنال ولا يدرك مداها، فالسماء الدنيا محيطة بجميع الأرض، وما حولها من الماء والهواء من جميع نواحيها وجهاتها وأرجائها، مرتفعة عليها من كل جانب على السواء، وبعد ما بينها وبين الأرض من كل ناحية مسيرة خمسمائة عام، وسمكها في نفسها مسيرة خمسمائة عام، ثم السماء الثانية محيطة بالسماء الدنيا وما حوت، وبينهما من بعد المسير خمسمائة عام، وسمكها خمسمائة عام، وهكذا السماء الثالثة والرابعة والخامسة والسادسة والسابعة، كما قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ الآية.
وقوله: بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا روي عن ابن عباس - ا - ومجاهد والحسن وقتادة وغير واحد أنهم قالوا: لها عمد ولكن لا ترى. وقال إياس بن معاوية: السماء على الأرض مثل القبة، يعني بلا عمد، وكذا روي عن قتادة، وهذا هو اللائق بالسياق، والظاهر من قوله تعالى: وَيُمْسِكُ السَّمَاء أَن تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ [سورة الحـج:65]، فعلى هذا يكون قوله: تَرَوْنَهَا تأكيداً لنفي ذلك، أي هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها، وهذا هو الأكمل في القدرة.
في قوله تعالى: اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا، قولان مشهوران للمفسرين القول الأول: أن الله رفع السماء بغير عمد نراها، فقوله - تبارك وتعالى -: بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا يحتمل أن الله رفعها بغير عمد مرئية، يعني لها عمد لكنها غير مرئية، فيكون الضمير في قوله: تَرَوْنَهَا عائد إلى العمد، بغير عمد تُرى، وقيل: العمد هو قدرته - تبارك وتعالى -، وقيل: لها عمد لكنها لا تبصر بالأعين، أو أن الضمير في قوله: تَرَوْنَهَا عائد إلى السماء، فالله خلقها من غير عمد كما نراها ونشاهدها، وكل واحد من القولين قال به طائفة من السلف، فالآية تحتمل المعنيين، فمن قال: بأن الضمير يرجع إلى العمد، قال: هذا دليل على القدرة، فهذه عمد غير مرئية، وهذا أمر غير معهود للناس، ومن قال: بأن الضمير عائد إلى السماء، قال: هذا أدل على القدرة، كما قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -، باعتبار أن هذا السقف العظيم الهائل لا يقوم على أعمدة، فالله - تبارك وتعالى - هو الذي يمسكه، فهو يمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ، وهذا المعنى الثاني هو الأقرب، وهو المتبادر إلى الذهن، ولا يقال: بأن الضمير يرجع إلى أقرب مذكور وهي العمد، فإن السياق وما يمكن أن تفسر به الآية من القرآن يدل على رجحان المعنى الآخر، وهو أن السماء ليس لها عمد أصلاً، ومن أهل العلم كابن جرير - رحمه الله - من يقول: لا نتكلم في هذا، وإنما نقول كما قال الله أنه خلق السماء بغير عمد نراها، فهي كما نشاهد ليس لها أعمدة، سواء كان الأمر كما نشاهد ليس لها أعمدة أصلاً، أو كان لها أعمدة لا تبصر، فكل هذا من دلائل قدرته وعظمته ووحدانيته --، ولا شك أن هذا القول أسلم، و قول الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في السموات: بأن ما بينها وبين الأرض من كل ناحية مسيرة خمسمائة عام، وأن سمكها مسيرة خمسمائة عام، إلى آخره. هذا الحديث الوارد في هذا المعنى لا يصح، المسافات التي بين كل سماء وسماء خمسمائة عام، الحديث لا يصح، لكن لا شك أن ما بين كل سماء وسماء أنه يوجد مسافة، وأن السماوات ليست منطبقة على بعضها، هذا أمر مقطوع به، وحديث المعراج يدل على ذلك، وأن لكل سماء من يسكنها من الملائكة، لكن يبقى النظر في الأرض، فالله - تبارك وتعالى - أخبر أنه خلق سبع سماوات قال: وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ [سورة الطلاق:12]، فالأرض سبع طبقات، ولا يقال هل هذه الطبقات منفصلة كل طبقة عن الأخرى أو متصلة ملتصقة، هذا لا علم لنا به فلا نخوض فيه، وما ورد فيه في بعض المرويات بأن كل أرض فيها من يسكنها، وأنها فيها من الأنبياء كأنبيائنا، إلى آخره، كل هذا لا يصح فيه شيء، - فالله تعالى أعلم - هل هي ملتصقة أو منفصلة، لكن الله قال: يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ، وهكذا ما يذكره أهل علم الأرض من أن هذه الطبقات هي الطبقة القشرة، الطبقة الصخرية، ثم الطبقة المنصهرة، ... إلى النواة، هذا الكلام لا تفسر به طبقات الأرض السبع، وما يذكر في هذا إنما هو نظريات وليس عندهم فيه برهان، وهم يقرون بذلك، ومن قال: بأن الأرض المقصود بهذه الطبقات يعني سبعة أفلاك، غير صحيح، وإنما بعضها فوق بعض، ويدل على هذا أدلة، منها قوله ﷺ: طوقه إلى سبع أرضين[1] من غصب شبراً من الأرض، وكذلك النصوص الواردة التي يذكر فيها أحياناً الخسف، فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة[2]، أي: في الأرض.
تمر كما جاءت من غير تحريف أو تكييف، ويفسر المعنى، فكلمة "علا" في كلام العرب بمعنى استوى، وتأتي بمعنى علا وارتفع، فالاستواء علو خاص، استواؤه - تبارك وتعالى - على العرش هو أحد الأدلة الدالة على علوه - تبارك وتعالى -، فيفسر الاستواء بالعلو والارتفاع.
قوله - تبارك وتعالى -: وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، بمعنى ذللهما، فهما يسيران بهذه المنازل وهذا السير المنضبط غاية الانضباط، لما قدره الله وقضاه من مصالح العالم، فيتعاقب الليل والنهار، ويحصل التعاقب بين الفصول في السنة، إلى غير ذلك من المنافع، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً، الحافظ ابن كثير هنا قال: "أي يجريان إلى انقطاعهما بقيام الساعة"، فهذا السير للشمس والقمر بهذه الطريقة المنتظمة غاية الانتظام، تخرج من المشرق ثم تغرب من جهة المغرب في كل يوم بهذا الانتظام العجيب الدقيق، كل ذلك إلى وقت معلوم، وهو وقت قيام الساعة، فيحصل التغير لهذه النجوم والأفلاك، وتنكدر النجوم وتكور الشمس وتجمع مع القمر ويلقيان في النار، فتتغير أحوال العالم العلوي والعالم السفلي، وهذا عليه عامة أهل العلم من المفسرين، ومن أهل العلم من قال: بأن المقصود في الدنيا، كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً، والمقصود به منازل الشمس ومنازل القمر، فمنازل الشمس تكون في سنة، ومنازل القمر تكون في شهر، يبدأ القمر من أول ليلة في منزلة ثم الليلة الثانية في منزلة، وهكذا في ثمان وعشرين منزلة، والذي عليه عامة السلف فمن بعدهم أن المقصود كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً أي: يوم القيامة، فإذا جاء يوم القيامة توقف هذا الجريان، وتغيرت هذه الأحوال التي نشاهدها.
وقوله تعالى: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا، وقيل: إن مستقرهما وهو تحت العرش، الله قال: وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا، المستقر: يفسر بأنها تسجد تحت العرش، كما ثبت عن النبي ﷺ، ولكن ذلك في الشمس وليس القمر، والله - تبارك وتعالى - قرن بينهما في المسير في هذه الآية، والجريان، قال: كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً، فلا يفسر والله تعالى أعلم هذه الآية بالسجود تحت العرش، والأجل في قوله: لِأَجَلٍ مُسَمّىً أي: قيام الساعة، والله أعلم.
والجريان ليس فقط للشمس والقمر كما هو معلوم، فالنجوم كذلك، فخص الله تبارك وتعالى الشمس والقمر دون سائر الكواكب والنجوم لظهورهما وعظم منافعهما مقارنة بغيرهما - والله أعلم -.
- رواه مسلم من حديث عروة برقم (1610)، كتاب المساقاة، باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها.
- رواه البخاري من حديث أبي هريرة برقم (5452)، كتاب اللباس، باب من جر ثوبه من الخيلاء، ومسلم برقم (2088)، كتاب اللباس والزينة، باب تحريم التبختر في المشي مع إعجابه بثيابه.