قال المصنف - رحمه الله - تعالى في تفسير قوله تعالى: لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ [سورة الرعد:34-35].
ذكر تعالى عقاب الكفار وثواب الأبرار، فقال بعد إخباره عن حال المشركين وما هم عليه من الكفر والشرك: لّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدّنْيَا، أي: بأيدي المؤمنين قتلاً وأسراً، وَلَعَذَابُ الآخرة أي: المدخر مع هذا الخزي في الدنيا، أَشَقّ أي: من هذا بكثير، كما قال رسول الله ﷺ للمتلاعنين: إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة[1]. وهو كما قال ﷺ فإن عذاب الدنيا له انقضاء، وذاك دائم أبداً في نار هي بالنسبة إلى هذه سبعون ضعفاً، ووثاق لا يتصور كثافته وشدته، كما قال تعالى: فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ [سورة الفجر::25-26]، وقال تعالى: وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاء وَمَصِيرًا [سورة الفرقان:11-15]؛ ولهذا قرن هذا بقوله: مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ [سورة الرعد:35] أي: صفتها ونعتها، تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ [سورة الرعد:35]، أي: سارحة في أرجائها وجوانبها، وحيث شاء أهلها يفجرونها تفجيراً، أي: يصرفونها كيف شاءوا وأين شاءوا، كقوله: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ [سورة محمد:15] الآية.
قوله - تبارك وتعالى -: مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ [سورة الرعد:35] أي: تجري من تحت قصورها وأشجارها، وأصل المثل في كلام العرب يطلق على الشبه وما في معناه، أي: صورة الشيء وصفته، والمقصود به هنا النعت والصفة، أي صفة الجنة التي وعد المتقون.
وقوله: أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا أي: فيها الفواكه والمطاعم والمشارب لا انقطاع ولا فناء، وفي الصحيحين من حديث ابن عباس - ا - في صلاة الكسوف، وفيه قالوا: يا رسول الله رأيناك تناولت شيئاً في مقامك هذا، ثم رأيناك تكعكعت، فقال: إني رأيت الجنة فتناولت منها عنقوداً، ولو أخذته لأكلتم منه ما بَقِيَت الدنيا[2].
وعن جابر بن عبد الله - ا - قال: قال رسول الله ﷺ: يأكل أهل الجنة فيها ويشربون، ولا يتمخطون ولا يتغوطون، ولا يبولون، طعامهم جشاء كريح المسك، ويلهمون التسبيح والتقديس كما يلهمون النفس.[3].رواه مسلم، وروى الإمام أحمد والنسائي عن ثمامة بن عقبة، سمعت زيد بن أرقم قال: جاء رجل من أهل الكتاب فقال: يا أبا القاسم: تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون؟ قال: نعم، والذي نفس محمد بيده، إن الرجل منهم ليعطى قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع والشهوة، قال: إن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة، وليس في الجنة أذى؟ قال: تكون حاجة أحدهم رشحاً يفيض من جلودهم كريح المسك فيضمر بطنه[4].رواه الإمام أحمد والنسائي.
هذا الحديث صحيح، وهو من كمال النعيم، فأين أهل الدنيا عن هذا النعيم؟ معلوم من قديم الزمن أن كثرة الأكل من المحامد؛ ولذلك يأكلون الأمور التي تفتح الشهية، أما في الجنة فيؤتى الرجل الواحد من أهل الجنة قوة مائة رجل.
يذكر الظل في القرآن أنه من نعيم الجنة، وكذلك الطلح والمشهور من أقوال المفسرين أنه من شجر العضاه، وهو معروف في بلاد العرب، وأنه ليس الموز.
والله يذكر للعرب ما يلامس مشاعرهم، فيذكر الظل الممدود والطلح والنخيل والأعناب، ولم يذكر الله - تبارك وتعالى – البرتقال والتفاح وأنواع الفواكه الموجودة في بلاد العرب؛ لأنها ليست في بلادهم، وقد ذكر الله – تبارك وتعالى – في القرآن السماء والأرض والجمل والإبل، ولم يذكر لهم الفيل والزرافة؛ لأنها ليست في بلادهم.
- رواه مسلم، كتاب اللعان، (2 / 1130)، برقم (1493).
- رواه البخاري، كتاب صفة الصلاة، باب رفع البصر إلى الإمام (1 / 261)، برقم (715)، ومسلم، كتاب الكسوف، باب ما عرض على النبي ﷺ من أمر الجنة والنار (3 / 33)، برقم: (2147).
- رواه مسلم، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في صفات الجنة وأهلها وتسبيحهم فيها بكرة وعشيا، (4 / 2180)، برقم (2835).
- رواه أحمد (32 / 18)، برقم (19269)، النسائي، كتاب التفسير، سورة الشورى (6 / 454)، برقم (11478).