الإثنين 07 / ذو القعدة / 1446 - 05 / مايو 2025
مِّن وَرَآئِهِۦ جَهَنَّمُ وَيُسْقَىٰ مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله: وَاسْتَفْتَحُوا أي: استنصرت الرسل ربها على قومها، قاله ابن عباس - ا - ومجاهد وقتادة.

قوله: وَاسْتَفْتَحُوا أي الرسل طلبوا النصر، وهذا اختيار ابن جرير، استفتحوا: أي طلبوا من الله أن ينصرهم على أعدائهم، وقوله - تبارك وتعالى -: إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ [سورة الأنفال:19]، فالفتح يأتي بمعنى النصر، وقيل: إِن تَسْتَفْتِحُواْ أي: تطلبوا الفتح وهو النصر، فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ، ويأتي الاستفتاح بمعنى الحكم، والفتح هو الحكم، والحاكم يقال له: فاتح، والحكَم يقال له: فتاحة أيضاً، "فإني عن فتاحتكم غني": أي عن حكمكم، ويقال للحاكم أيضاً: فتّاح، إِن تَسْتَفْتِحُواْ أي: تطلبوا الحكم بين الفريقين.

وقوله: وَاسْتَفْتَحُوا يحتمل أن يكون المراد أن الرسل - عليهم الصلاة والسلام - طلبوا النصر، ويحتمل أن يكون ذلك عائداً إلى الفريقين، طلبوا أن يحكم الله بينهم، وأن يظهر صاحب الحق، وقد نقل الحافظ ابن حجر - رحمه الله - عن بعض العلماء في الفتح: "أن الكفار والمكذبين وأصحاب الشبهات لربما يكونون في حال من المكابرة والتكذيب بحيث إنهم يطلبون أن يُظهر الله الصادق من الكاذب، والمحق من المبطل إظهاراً لشدة وثوقهم بما هم عليه، ويحتمل أن يكون الأمم كما قال: "استفتحت الأمم على أنفسها"، يعني: دعوا.

وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: استفتحت الأمم على أنفسها كما قالوا: اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الأنفال:32]، ويحتمل أن يكون هذا مراداً وهذا مراداً، كما أنهم استفتحوا على أنفسهم يوم بدر، واستفتح رسول الله ﷺ واستنصر، وقال الله تعالى للمشركين: إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ [سورة الأنفال:19] الآية، والله أعلم.

وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ أي: متجبر في نفسه عنيد معاند للحق، كقوله تعالى: أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ ۝ مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ ۝ الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ [سورة ق:24-26]، وفي الحديث: إنه يؤتى بجهنم يوم القيامة، فتنادي الخلائق، فتقول: إني وُكلت بكل جبار عنيد[1]الحديث. أي: خاب وخسر حين اجتهد الأنبياء في الابتهال إلى ربها العزيز المقتدر.

وقوله: مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ وراء هنا بمعنى أمام، كقوله تعالى: وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً [سورة الكهف:79].

كلمة "وراء" من الأضداد، تأتي بمعنى أمام وبمعنى خلف، وتستعمل للمعنيين مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ أي: من أمامه، يعني فيما يستقبله، النار تنتظره، هو مفضٍ إلى النار، وهذا المعنى هو المتبادر؛ لأن ذلك شيء يستقبله، ويصير إليه، وهذا التفسير وإن لم يكن محل اتفاق لكن عليه كثير من المحققين، وهو الذي اختاره ابن جرير والشنقيطي وجماعة.

وقوله أيضاً : من ورائكم أيام الصبر[2]، يعني فيما تستقبلون، وبعضهم يقول: مِنْ وَرَائِهِ أي: من بعده.

وكان ابن عباس - ا - يقرؤها: وكان أمامهم ملِك، أي: من وراء الجبار العنيد جهنم، أي هي له بالمرصاد يسكنها مخلداً يوم المعاد، ويُعرض عليها غدواً وعشياً إلى يوم التناد، وَيُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ.

قال المصنف - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ [سورة إبراهيم:16] أي: في النار ليس له شراب إلا من حميم وغساق، فهذا حار في غاية الحرارة، وهذا بارد في غاية البرد والنتن، كما قال: هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ۝ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ [سورة ص:57-58]، وقال مجاهد وعكرمة: الصديد من القيح والدم.

يقول الله تعالى: وَسُقُوا مَاءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [سورة محمد:15]، ويقول: وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ [سورة الكهف:29] الآية، وهكذا رواه ابن جرير.

  1. رواه بمعناه الترمذي برقم (2574)، وقال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح، كتاب صفة جهنم عن رسول الله  ﷺ، باب ما جاء في صفة النار،  وأحمد في المسند (14/152)، برقم (8430)، وقال محققوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (512).
  2. رواه أبو داود برقم (4341)، كتاب الملاحم، باب الأمر والنهي، وابن ماجه برقم (4014)، كتاب الفتن، باب قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم}، والحاكم في المستدرك (4/358)، برقم (7912)، وقال:هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، كتاب الرقائق، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة (494).