الإثنين 07 / ذو القعدة / 1446 - 05 / مايو 2025
يَتَجَرَّعُهُۥ وَلَا يَكَادُ يُسِيغُهُۥ وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ۖ وَمِن وَرَآئِهِۦ عَذَابٌ غَلِيظٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله: يَتَجَرَّعُهُ أي: يتغصصه ويتكرهه، أي يشربه قهراً وقسراً لا يضعه في فمه حتى يضربه الملك بمطراق من حديد، كما قال تعالى: وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ[سورة الحج:21]، وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ[سورة إبراهيم:17] أي: يزدرده لسوء طعمه ولونه وريحه وحرارته أو برده الذي لا يستطاع، وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ [سورة إبراهيم:17] أي: يألم له جميع بدنه وجوارحه وأعضائه، قال عمرو بن ميمون بن مهران: من كل عظم وعصب وعرق.

وقال الضحاك عن ابن عباس - ا -: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ  قال: أنواع العذاب الذي يعذبه الله بها يوم القيامة في نار جهنم، ليس منها نوع إلا يأتيه الموت منه لو كان يموت، ولكن لا يموت؛ لأن الله تعالى قال: لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا [سورة فاطر:36]، ومعنى كلام ابن عباس - ا - أنه ما من نوع من هذه الأنواع من العذاب إلا إذا ورد عليه اقتضى أن يموت منه لو كان يموت، ولكنه لا يموت، ليخلد في دوام العذاب والنكال؛ ولهذا قال تعالى: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ [سورة إبراهيم:17].

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله - تبارك وتعالى -: وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ، الصديد ما كان من القيح والدم، قيل له ذلك؛ لأنه يصد عن النظر إليه، لقبح مرآه، فالنفوس تعافه وتنفر منه، وقوله - تبارك وتعالى -: يَتَجَرَّعُهُ أي أنه لا يمضي في مجرى حلقه إلا بصعوبة وشدة يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ.

وقوله: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ ذكر الحافظ - رحمه الله - معنيين لهذه الآية: الأول: أن الموت يأتيه من كل موضع في بدنه؛ لأنه يجد في ذلك الموضع ما لو نزل به وحده لأصابه الموت منه، يعني: ما نزل في هذا الموضع لوحده يكفي أن يحصل بسببه الموت، ولكنه لا يموت؛ لأن الله قضى أن يتعذب بهذا، لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا [سورة فاطر:36]، والقول الآخر االذي ذكره عن ابن عباس: وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ أي: من كل نوع من أنواع هذا العذاب، فإذا شرب هذا الصديد الذي يقطع الأمعاء يأتيه الموت منه، وليس بين القولين منافاة - والله تعالى أعلم - فإن هذه أسباب، وما يقع عليه من ألوان العذاب فإنها مميتة، فيأتيه الموت من قِبَلها، وما يحصل له من آثار فإن ذلك أيضاً مميت، وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ، فحينما يضرب بالمقامع من حديد يأتيه الموت، وهكذا حينما يشرب هذا الشراب، أو يشوى بالنار، نسأل الله العافية.

وقوله: وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [سورة إبراهيم:17] أي: وله من بعد هذه الحال عذاب آخر غليظ، أي مؤلم صعب شديد أغلظ من الذي قبله، وأدهى وأمر، وهذا كما قال تعالى عن شجرة الزقوم: إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ ۝ طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ ۝ فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ ۝ ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ ۝ ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ [سورة الصافات:64-68]، فأخبر أنهم تارة يكونون في أكل زقوم، وتارة في شرب حميم، وتارة يردون إلى جحيم، عياذاً بالله من ذلك، وهكذا قال تعالى: هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ ۝ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [سورة الرحمن:43-44]، وقال تعالى: إن شجرة الزقوم طَعَامُ الْأَثِيمِ ۝ كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ ۝ كَغَلْيِ الْحَمِيمِ ۝ خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ ۝ ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ ۝ ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ۝ إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ [سورة الدخان:43-50]، وقال: وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ ۝ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ ۝ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ ۝ لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ [سورة الواقعة:41-44]، وقال تعالى: هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ ۝ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ ۝ هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ ۝ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ [سورة ص:55-58]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على تنوع العذاب عليهم، وتكراره وأنواعه، وأشكاله مما لا يحصيه إلا الله  جزاءً وفاقاً وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [سورة فصلت:46].

الإنسان حينما يرى بعض الصور لأناس قد شُوهت أجسادهم مما وقع عليهم من الأذى والتعذيب، أو إلقاء المواد الحارقة، وما يحصل من التشويه والتمثيل بسلخ للوجه، وتقطيع للأنوف والآذان، وسمل للعيون، لا يسوغ له الطعام ولا الشراب ولا النوم بسبب هذه المناظر المقززة، فالذي يُخرق رأسه، أو تقطع أعضاؤه، أو تلقى عليه هذه المواد الحارقة، أو يسلخ حتى يموت، ولا يشعر بعد ذلك بما يجري له، قد يكون ذلك دقائق، أو ساعات، لكن لو تفكر الإنسان فيما ذكر الله ووصف من عذاب أهل النار فهو شيء لا يمكن للعقل أن يصل إلى مداه، أو أن يتصوره على حقيقته، وهو شيء دائم مستمر لا ينقطع، لا يفضي بهم هذا إلى راحة بعد مدة فيكون عند الإنسان شيء من الرجاء، نسأل الله أن يعيذنا وجميع المسلمين من النار.