يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء [سورة إبراهيم:27].
روى البخاري عن البراء بن عازب - ا -: أن رسول الله ﷺ قال: المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، فذلك قوله: يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ[1]. ورواه مسلم أيضاً وبقية الجماعة.
هذا الحديث هو من قبيل التفسير النبوي، وقد ذكر النبي ﷺ فيه الآية، وهو ثابت في الصحيحين، لكن قوله ﷺ: فذلك قوله: يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ، إذا سئل في القبر، ليس بصريح في أن هذا من التثبيت في الحياة الدنيا أو في الآخرة، هذا الحديث ذكر السؤال في القبر وذلك داخل في قوله: يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ فهذا مما يدخل فيه، النبي ﷺ ذكر نوعاً يدخل فيه التثبيت وهو الظاهر؛ لأنه ذكر الحياة الدنيا والآخرة، وهما داران، وذكر السؤال في القبر، فيبقى النظر، هل هذا التفسير من النبي ﷺ الذي قصد به السؤال في القبر هو من التثبيت في الحياة الدنيا؟، ثم يبقى النظر بعد ذلك في التثبيت في الآخرة عند سؤال الله للعبد والحساب، فعلت كذا وكذا، والإنسان بحاجة إلى تثبيت عند سؤال الله ، والحساب، كما أن الإنسان بحاجة إلى تثبيت قدمه على الصراط، فمن أهل العلم من يقول: إن السؤال في القبر هو المراد بقوله: يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا في الدنيا، وَفِي الآخِرَةِ هو عند الحساب، وقالوا: القبر لا زال في الدنيا، كيف لا زال في الدنيا، قالوا: إن الآخرة لا تكون إلا بعد البعث والنشور، فجعلوا التثبيت الأول في القبر في الحياة الدنيا، والثاني بعد البعث والنشور، عند الحساب، وهذا فيه إشكال؛ لأن القبر هو أول منازل الآخرة، وإذا مات ابن آدم قامت قيامته، ولهذا فإن من أهل العلم من يقول: يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا إن هذا على ظاهره، يثبتهم على الصراط في الدنيا، فيثبتون على إيمانهم، وطاعتهم لله ورسوله ﷺ حتى الممات، والنبي ﷺ كثيراً ما كان يدعو: يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك[2]، فيدعو الإنسان بهذا؛ لأنه بحاجة إليه، فهذا تثبيت في الحياة الدنيا، والتثبيت في الآخرة فسره بعض السلف بالقبر، فالقبر من الآخرة، ويمكن أن يقال: إن هذا أحد الأنواع الداخلة تحته، فالتثبيت في الآخرة يشمل سؤال الملكين، وكل ما يحتاج فيه الإنسان إلى التثبيت، على الصراط، وتثبيت قدمه على الصراط وعند سؤال الله ومحاسبته إياه، وَفِي الآخِرَةِ، والله أعلم.
وروى الإمام أحمد عن البراء بن عازب - ا - قال: خرجنا مع رسول الله ﷺ في جنازة رجل من الأنصار، فانتهينا إلى القبر ولمّا يلحد، فجلس رسول الله ﷺ، وجلسنا حوله كأن على رءوسنا الطير، وفي يده عود ينكت به الأرض، فرفع رأسه فقال: استعيذوا بالله من عذاب القبر مرتين أو ثلاثاً، ثم قال: إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه، كأن وجوههم الشمس، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة، حتى يجلسوا منه مدّ البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه، فيقول: أيتها النفس الطيبة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ـ قال ـ: فتخرج تسيل، كما تسيل القطرة من فِي السقاءِ، فيأخذها، فإذا أخذها لم يدَعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون بها، يعني على ملأ من الملائكة، إلا قالوا: ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا، فيستفتحون له، فيفتح له، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهى بها إلى السماء السابعة، فيقول الله: اكتبوا كتاب عبدي في عليين وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى، قال: فتعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: ربي الله، فيقولان له: ما دينك؟ فيقول: ديني الإسلام، فيقولان له: ما هذا الرجل الذين بعث فيكم؟ فيقول: هو رسول الله، فيقولان له: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت، فينادي مناد من السماء: أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة، وألبسوه من الجنة، وافتحوا له باباً إلى الجنة ـ قال ـ: فيأتيه من روحها وطيبها، ويفسح له في قبره مد بصره، ويأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، فيقول: أبشر بالذي يسرك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول له: من أنت فوجهك الوجه الذي يأتي بالخير؟ فيقول: أنا عملك الصالح، فيقول: رب أقم الساعة رب أقم الساعة، حتى أرجع إلى أهلي ومالي[3].
قال المصنف - رحمه الله تعالى - في تتمة سياقه لحديث البراء بن عازب - ا -: قال: وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء سود الوجوه معهم المسوح فجلسوا منه مد البصر، ثم يجيء ملك الموت فيجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب، قال: فتَفرق في جسده، فينتزعها كما ينتزع السَّفود من الصوف المبلول فيأخذها، فإذا أخذها لم يدَعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح ويخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون: فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح فلا يفتح له - ثم قرأ رسول الله ﷺ: لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ [سورة الأعراف:40]- فيقول الله : اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى، فتطرح روحه طرحاً - ثم قرأ حُنَفَاء لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ [سورة الحـج:31]- فتعاد روحه في جسده ويأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فيقولان: ما دينك؟ فيقول: هاه هاه لا أدري فيقولان: ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول: هاه هاه لا أدري. فينادي منادٍ من السماء أن كذب عبدي فأفرشوه من النار وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول: أبشر بالذي يسوءك هذا يومك الذي كنت توعد، فيقول: من أنت فوجهك الوجه يجيء بالشر؟ فيقول: أنا عملك الخبيث. فيقول: رب لا تقم الساعة[4]. ورواه أبو داود وابن ماجه.
وروى الإمام عبد بن حميد - رحمه الله تعالى - في مسنده عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله ﷺ: إن العبد إذا وضع في قبره وتولى عنه أصحابه، وإنه ليسمع قرع نعالهم، فيأتيه ملكان فيقعدانه فيقولان له: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ قال: فأما المؤمن فيقول: أشهد أنه عبد الله ورسوله، قال: فيقال له: انظر إلى مقعدك من النار قد أبدلك الله به مقعداً من الجنة، قال النبي ﷺ: فيراهما جميعاً[5]، قال قتادة: وذكر لنا أنه يفسح له في قبره سبعون ذراعاً، ويملأ عليه خَضِراً إلى يوم القيامة. رواه مسلم عن عبد بن حميد به، وأخرجه النسائي من حديث يونس بن محمد المؤدب.
وروى الحافظ أبو عيسى الترمذي - رحمه الله - عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: إِذا قبر الميت ـ أو قال: أحدكم ـ أتاه ملكان أسودان أزرقان، يقال لأحدهما منكر والآخر نكير، فيقولان: ما كنت تقول في هذا الرجل؟ فيقول ما كان يقول: هو عبد الله ورسوله: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً في سبعين، وينور له فيه، ثم يقال له: نم، فيقول: أرجع إلى أهلي فأخبرهم، فيقولان: نم نومة العروس الذي لا يوقظه إلا أحب أهله إليه حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك، وإن كان منافقاً قال: سمعت الناس يقولون فقلت مثلهم، لا أدري، فيقولان: قد كنا نعلم أنك تقول هذا، فيقال للأرض: التئمي عليه فتلتئم عليه حتى تختلف أضلاعه، فلا يزال فيها معذباً حتى يبعثه الله من مضجعه ذلك[6] ثم قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب.
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [سورة إبراهيم:27] ، ذلك إِذا قيل له في القبر: من ربك، وما دينك، ومن نبيك؟ فيقول: ربي الله، وديني الإسلام، ونبيي محمد، جاءنا بالبينات من عند الله، فآمنت به وصدقت، فيقال له: صدقت، على هذا عشت، وعليه مت، وعليه تبعث[7].
وروى ابن جرير عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال: والذي نفسي بيده، إن الميت ليسمع خفق نعالكم حين تولون عنه مدبرين، فإن كان مؤمناً كانت الصلاة عند رأسه والزكاة عن يمينه والصوم عن يساره، وكان فعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه، فيؤتى من قِبل رأسه، فتقول الصلاة: ما قِبلي مدخل، فيؤتى عن يمينه فتقول الزكاة: ما قبلي مدخل، فيؤتى عن يساره فيقول الصيام: ما قبلي مدخل، فيؤتى عند رجليه فيقول فعل الخيرات: ما قبلي مدخل، فيقال له: اجلس، فيجلس قد مثلت له الشمس قد دنت للغروب، فيقال له: أخبرنا عما نسألك، فيقول: دعني حتى أصلي، فيقال له: إنك ستفعل فأخبرنا عما نسألك، فيقول: وعم تسألوني؟ فيقال: أرأيت هذا الرجل الذي كان فيكم ماذا تقول به، وماذا تشهد به عليه؟ فيقول: أمحمد؟ فيقال له: نعم، فيقول: أشهد أنه رسول الله، وأنه جاءنا بالبينات من عند الله فصدقناه، فيقال له: على ذلك حَييتَ وعلى ذلك مت، وعليه تبعث إن شاء الله، ثم يفسح له في قبره سبعون ذراعاً وينور له فيه، ويفتح له باب إلى الجنة فيقال له: انظر إلى ما أعد الله لك فيها، فيزداد غبطة وسروراً، ثم تجعل نسمته في النسم الطيب، وهي طير خضر تعلق بشجر الجنة، ويعاد الجسد إلى ما بدىء من التراب[8]، وذلك قول الله: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ، رواه ابن حبان فذكر جواب الكافر وعذابه.
وروى عبد الرزاق عن طاوس يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا قال: لا إله إلا الله، وَفِي الْآخِرَةِ المسألة في القبر.
وقال قتادة: أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح، وَفِي الْآخِرَةِ في القبر، وكذا روي عن غير واحد من السلف.
فالتثبيت الذي يكون في الحياة الدنيا يمكن أن يحمل - والله تعالى أعلم - على التثبيت على الأعمال الصالحة، وعلى شهادة أن لا إله إلا الله، وعلى الإيمان في الحياة وعند الممات، حتى يختم للإنسان بالسعادة في الآخرة، وهي تبدأ منذ موت الإنسان، فالقبر أول منازل الآخرة، فإذا جاءه الملكان فسألاه فثبته الله فهذا من هذا التثبيت، والله تعالى أعلم.
- رواه البخاري برقم (4422)، كتاب التفسير، باب يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ، ومسلم برقم (2871)، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب عرض مقعد الميت من الجنة أو النار عليه وإثبات عذاب القبر والتعوذ منه، واللفظ للبخاري.
- رواه الترمذي من حديث أنس برقم (2140)، كتاب القدر عن رسول الله ﷺ، باب ما جاء أن القلوب بين أصبعي الرحمن، وأحمد في المسند (19/160)، برقم (12107)، وقال محققوه: إسناده قوي على شرط مسلم، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (2091)، وفي صحيح الجامع برقم (13947).
- رواه الإمام أحمد في المسند (30/499)، برقم (18534)، وقال محققوه: إسناده صحيح، رجاله رجال الصحيح، وصححه الألباني في صحيح الجامع (1676).
- رواه أحمد (30 / 499- 501)، برقم (18534).
- رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر (1 / 462)، برقم (1308)، ومسلم، كتاب التوبة، باب عرض مقعد الميت من الجنة (4 / 2200)، برقم (2870).
- رواه الترمذي، كتاب الجنائز، باب ما جاء في عذاب القبر (3 / 383)، برقم (1071).
- تفسير الطبري (16 / 598).
- رواه ابن حبان، كتاب الجنائز، باب المريض وما يتعلق به (7 / 380)، برقم (3113)، وابن أبي شيبة في مصنفه (3 / 56)، برقم (12062).