قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ [سورة إبراهيم:31].
يقول تعالى آمراً عباده بطاعته والقيام بحقه والإحسان إلى خلقه بأن يقيموا الصلاة، وهي عبادة الله وحده لا شريك له، وأن ينفقوا مما رزقهم الله بأداء الزكوات والنفقة على القرابات والإحسان إلى الأجانب، والمراد بإقامتها هو المحافظة على وقتها وحدودها وركوعها وخشوعها وسجودها، وأمر تعالى بالإنفاق مما رزق في السر أي في الخفية، والعلانية: وهي الجهر، وليبادروا إلى ذلك لخلاص أنفسهم مّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ وهو يوم القيامة لاّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ أي: ولا يقبل من أحد فدية بأن تباع نفسه، كما قال تعالى: فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [سورة الحديد:15]، وقوله: وَلاَ خِلاَلٌ قال ابن جرير: يقول: ليس هناك مُخالّة خليل فيصفح عمن استوجب العقوبة، عن العقاب لمُخالتّه، بل هناك العدل والقسط، والخِلال مصدر من قول القائل: خاللتُ فلاناً فأنا أُخالّه مُخالّة وخلالاً، وقال قتادة: إن الله قد علم أن في الدنيا بيوعاً وخِلالاً يتخالّون بها في الدنيا، فينظر الرجل من يخالل وعلام يصاحب، فإن كان لله فليداوم، وإن كان لغير الله فسيقطع عنه، قلت: والمراد من هذا أنه يخبر تعالى أنه لا ينفع أحداً بيعٌ ولا فدية، ولو افتدى بملء الأرض ذهباً لو وجده، ولا تنفعه صداقة أحد ولا شفاعة أحد إذا لقي الله كافراً، قال الله تعالى: وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [سورة البقرة:48] وقال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [سورة البقرة:254].
قوله: قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ [سورة إبراهيم:31] اختلف العلماء في "مِن" هل المراد بها التبعيض أو غير ذلك؟، فمن حملها على التبعيض قال: لا يجب على الإنسان أن ينفق كل ماله.
وقد تكلم أهل العلم في إنفاق كل المال، فمنعه بعضهم، وفصل فيه آخرون - وهو الأقرب - وقالوا: إن ذلك يختلف باختلاف الناس، فأبو بكر تصدق بكل ماله، وعمر تصدق بشطر ماله، ولم يقبل النبي ﷺ من رجل تصدق بقطعة من ذهب.
قوله: سِرًّا وَعَلانِيَةً، قال بعض السلف سِرًّا أي: الصدقة، وَعَلانِيَةً أي الزكاة، والأقرب - والله أعلم - أن هذه الآية لا تختص بالصدقة أو الزكاة، فالزكاة لا تقيّد دائماً بالعلانية، والصدقة لا تقيد دائماً بالسر، وإنما يكون ذلك بحسب الحال والمصلحة، فالرجل الذي يكون في بلد لا تُخرج فيها الزكاة مثلاً، أو يقصر الناس فيها كثيراً فإظهارها من أجل إحياء هذه الشعيرة أمر مطلوب، ومن خشي التهمة فإنه يخرجها علانية.
فإذا قال قائل: أنا لا أستطيع أن أخلص في هذه العبادة إلا إذا أخرجتها سراً، أما إذا أعلنت بها دخل في قلبي الرياء، فنقول: الواجب عليك أن تخرجها سراً، وكذلك بالنسبة للصدقات.
فإذا كانت المصلحة إخراج الصدقات أو إنفاق الأموال سراً أنفقوها سراً، وإذا كانت المصلحة تقتضي إخراجها علانية أخرجت علانية، وقد كان النبي ﷺ يدعو إلى الصدقة فيأتي أصحابُه أمام الناس، فهذا يأتي بصرّة قد عجزت عنها كفه، وهذا يأتي بشيء يسير، وآخر يأتي بشيء كثير، فكان أهل النفاق يلمزون من جاء بمال قليل بقولهم: الله غني عن هذا وصدقته، ويقولون فيمن جاء بمال كثير: هذا مُراءٍ، فأنزل الله: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [سورة التوبة:79].