قوله: أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ [سورة إبراهيم:9]، يحتمل أن يكون هذا من بقية كلام موسى ﷺ فيذكرهم بنعم الله ويذكرهم بما حل من النقم في الأمم السابقة.
ويحتمل أن يكون خبراً مستأنفاً من الله – تبارك وتعالى - موجهاً إلى هذه الأمة، بعدما قص خبر بني إسرائيل، ذكر ما تحصل به العظة، وهذا أحد المواضع التي يكون فيها الكلام محتملاً لكونه من كلام الله أو أنه من تمام كلام قبله لقائل آخر، وذكرنا أمثلة في بعض المناسبات، ومنه قوله - تبارك وتعالى -: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة الأنعام:81] هذا من كلام إبراهيم ثم قال – تبارك وتعالى -: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [سورة الأنعام:82]، وهذا يحتمل أن يكون من كلام إبراهيم ، من تمام كلامه، ويحتمل أن يكون من كلام الله على سبيل الفصل بين الفريقين.
هذه الرواية جاءت عن طريق ابن إسحاق ولو صحت عن ابن مسعود لكان المعنى ما فسره عروة بن الزبير بقوله: "ما وجدنا أحداً يعرف ما بعد معد بن عدنان" يعني أن ما بين معد بن عدنان إلى إسماعيل لا يُعرف، والذين يزعمون من الناسبين أنهم يعرفون سلسة النسب ليس لقولهم مستند.
قوله: لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ أي: أن هذه الأمم لا تعرف بذاتها ولا بأسمائها، ولا بأوصافها، ولا بأحوالها وأعمالها، ويحتمل أن يكون المراد بقوله: لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ أي: لا يعلم أحوالهم وأعمالهم وأخلاقهم وأوصافهم إلا الله – تبارك وتعالى -.
قوله: فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ اختلف العلماء في عود الضمير في قوله: أَيْدِيَهُمْ والذي عليه عامة علماء التفسير أن الضمير يرجع إلى المكذبين، ويكون المعنى ردوا أيدي أنفسهم في أفواههم.
وقيل: إنهم ردوا أيدي الرسل في أفواههم، وهذا فيه بعد.
واختلف العلماء في عود الضمير في قوله: أَفْوَاهِهِمْ فقيل: الضمير يرجع إلى أفواه الرسل، وقيل: يعود الضمير إلى أفواه المكذبين، أي فردوا أيديهم في أفواه أنفسهم، فإذا قيل: إن المقصود بالأفواه هي أفواه الرسل، فيكون المعنى أنهم يسكتونهم بوضع أيديهم على أفواههم، وإذا قلنا: إن الضمير يرجع إليهم، فيكون المعنى أنهم ردوا أيديهم في أفواه أنفسهم وفعلوا ذلك على سبيل التعجب والاستغراب كما يفعله المتعجب حينما يغطي فمه لدهشته أو شدة تعجبه، وقال بعض أهل العلم: إن الكفار ردوا أيديهم في أفواههم؛ لأنهم سخروا وضحكوا من الرسل .
والذي عليه جماعة من المحققين أنهم ردوا أيديهم في أفواههم من الحنق والغيظ، ومنه قوله – تبارك وتعالى -:وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ [سورة آل عمران:119]، أي: من شدة الحنق عليهم، وهذا اختيار ابن جرير ومحمد الأمين الشنقيطي، والله أعلم.
(مسألة)
هناك فرق بين بلوغ الحجة، وقيام الحجة، وهذه المسألة فيها تفاصيل كثيرة للعلماء، فلو خاطبت شخصاً بالعربية وهو أعجمي ولا يفهم العربية ودعوتَه إلى الإسلام، ولا يوجد مترجم، فهل نقول: إن الحجة قد قامت عليه؟!
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - عن كثير من اليهود والنصارى: إنه قامت عندهم صوارف وشبهات وأشياء منعتهم من الدخول في الإسلام، لم يتضح لهم حقية ما جاء به النبي ﷺ.
وهذه المسألة من أقدم المسائل ولا نظر فيها إلا لأهل العلم الراسخين، ولم يكن من منهج السلف إطلاق التكفير بدون ضوابط، فكانوا يقولون: القول بخلق القرآن كفر، ولكن الإمام أحمد لم يكفر المعتصم، بل جعله في حلٍ لما فتح عمورية.