وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مّنْ حَمَإٍ مّسْنُونٍ وَالْجَآنّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نّارِ السّمُومِ [سورة الحجر:26-27].
قال ابن عباس - ا - ومجاهد وقتادة: المراد بالصلصال ههنا التراب اليابس، والظاهر أنه كقوله تعالى: خَلَقَ الْإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ [سورة الرحمن:14-15]، وعن مجاهد أيضاً: الصلصال المنتن، وتفسير الآية بالآية أولى.
قوله: مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ أي: الصلصال من حمأ، وهو الطين، والمسنون: الأملس.
مما تميز به تفسير ابن كثير - رحمه الله - تفسير القرآن بالقرآن، فالصلصال، إذا ضربته فإنه يكون له صلصلة؛ ولهذا قال بعضهم: الصلصال هو الطين المخلوط بالرمل إذا يبس فإنه يصلصل إذا ضرب، وبعضهم يقول: هو الطين اليابس، أو الطين الدقيق الناعم إذا ضربته بعد أن ييبس يُصوّت، وهذا الذي اختاره عامة المفسرين، وهو قول المحققين منهم، واختاره كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله - وجماعة، ومن المعاصرين الشيخ/ محمد الأمين الشنقيطي، هذا الصلصال، فإذا طبخ في النار فإنه يكون فخاراً، والله - تبارك وتعالى - أخبر عن خلق الإنسان أنه من تراب، إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ [سورة آل عمران:59]، فهذا بدء الخلق، وأخبر أنه خلقه من طين، فهذا التراب لما بُلّ بالماء صار طيناً، ثم ترك فتغير فصار حمأً مسنوناً متغيراً، يميل إلى السواد، ثم بعد ذلك يبس فصار صلصالاً كالفخار، هذه أطوار خلق الإنسان، وقد ذكر الله في كل موضع صفة تصدق على طور من أطواره، فالتراب باعتبار الأصل الأول، والطين مرحلة، والصلصال مرحلة، والله أعلم. ومجاهد - رحمه الله - يقول: "الصلصال هو المنتن"، وهذا له أصل في كلام العرب، يقول: صلَّ اللحم إذا أنتن، مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ، وفي آية الكهف وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ [سورة الكهف:86] أي: متغيرة، وبعضهم قال: أي: منتنة، والمتغير يسميه الناس غَرَباً، ففي موضع الماء الذي يجتمع فيه ويطول مكثه، يتغير لونه تارة يكون إلى الخضرة، وتارة بلون التراب، وتارة يميل إلى السواد، وهذا الذي يميل إلى السواد هو المنتن، فهذا الحمأ، فهذا توجيه لقول مجاهد - رحمه الله -: إن الصلصال هو المنتن بهذا الاعتبار.
وقوله: مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ "أي: الصلصال من حمإ وهو الطين"، وبعضهم يقيده ويقول: الطين الأسود، وبعضهم يقول: الطين المتغير، ولا منافاة، كما يقول ابن جرير - رحمه الله -، مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ وبعضهم يقول: أصل ذلك أنك إذا حككت حجرين ببعضهما فما يكون منهما من فتات هو المسنون، يقال: وهذا مسن، للآلة التي تحد بها السكين أو السيف أو نحو هذا، ويقال: سننت الحجر، بمعنى حككته، ويقال: أسن الماء إذا تغير، وبه فسر بعضهم قوله تعالى: مِّن مَّاء غَيْرِ آسِنٍ [سورة محمد:15] يعني: غير متغير، فالماء إذا بقي مدة طويلة يتغير، وبعضهم يفسره بالمصبوب، وبعض أئمة العربية كسيبويه - رحمه الله -، يقول بأن الحمأ المسنون هو المصوَّر، وبعضهم يجمع بين المعنيين فيقول: صُبَّ بطريقة صُوّر فيها، وبعضهم يقول: طويل يقال: وجه مصلول للوجه الطويل، وهذا يرجع إلى المصوَّر، كل هذه الأقوال ترجع إلى هذا المعنى، المصوَّر، والظاهر المتبادر أن المقصود به - والله تعالى أعلم - الطين المتغير.