إِنّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوَاْ إِنّ اللّهَ لاَ يُحِبّ كُلّ خَوّانٍ كَفُورٍ [سورة الحج:38].
يخبر تعالى أنه يدفع عن عباده الذين توكلوا عليه وأنابوا إليه شر الأشرار وكيد الفجار ويحفظهم ويكلؤهم وينصرهم، كما قال تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ، وقال: وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً.
في قوله - تبارك وتعالى -: إِنّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوَاْ قرأ "يدفع" ابن كثير وأبو عمرو إِنّ اللّهَ يَدَفِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوَاْ، وهكذا في الآية الأخرى، قوله - تبارك وتعالى -: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ [سورة الحج:40]، وفي قراءة نافع إِنّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوَاْ، ثم: وَلَوْلَا دَفْاعُ اللَّهِ النَّاسَ، وفي القراءة التي تقرأ بها قراءة عاصم وابن عامر وحمزة والكسائي إِنّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوَاْ، وفي الثانية وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ هذه قراءة، والقراءة التي نقرأ بها يمكن أن تكون مفسرة بقراءة ابن كثير وأبي عمرو، إِنّ اللّهَ يَدَفِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوَاْ يدفع يمكن أن تكون مفسرة لها، لأن قراءة يدفع قراءة واضحة لا إشكال فيها يدفع عنهم كيد الأشرار الفجار، ويدفع عنهم السوء كما قال ابن جرير - رحمه الله - في تفسير قوله - تبارك وتعالى -: الطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ [سورة النور:26] وهكذا في قوله الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ، ابن جرير مما ذكر في معناه: أن الكلمات الطيبات والأوصاف الطيبات للطيبين من الناس، والأوصاف الخبيثة والأقوال الخبيثة للخبيثين من الناس، فإذا صدرت منهم ضرتهم، وإذا صدرت وقيلت في حق أهل الإيمان لا يضرهم؛ لأنه ليس لهم، هكذا فسره ابن جرير وينبغي أن يدخل فيه دخولاً أولياً النساء؛ نظراً للنزول، وما جاء في أسبابه، فهنا هذه القراءة "يدفع" إذا قلنا: إنها مفسرة للقراءة الثانية، والقراءات يفسر بعضها بعضاً؛ لأن هاتين القراءتين تعودان إلى معنى واحد وهو الدفع، والفرق بين القراءتين أن "يدافع" صيغة مفاعلة في الأصل في الاستعمال تكون بين طرفين يدافع، يغالب، يقاتل، يعارك يجاوب، يضارب، لكن المدافعة لا تكون بين الله وبين أحد من خلقه، ولا أحد يستطيع أن يغالب الله، ومن هنا استشكل بعض أهل العلم هذه القراءة يدافع، فبعضهم قال: إن قوله يدافع بمعنى يدفع، وإن القراءة الأخرى مفسرة لها يدافع بمعنى يدفع، وليس المقصود به معنى المفاعلة، فتكون المدافعة – المفاعلة - هنا مستعملة في معنى أصل الكلمة المجرد، يعني من غير ملاحظة للأصل في استعمالها، وهو ما كان بين الطرفين فأكثر، وهذا له نظائر في كلام العرب؛ لأن المعاقبة تكون في تقابل بين الطرفين، أو إيقاع العقاب من طرف فاستعملت القاعدة على شيء يصدر من طرف، لكن المقاتلة والمبارزة والمجابهة والمناوءة كل هذا يكون بين طرفين، لكن المعاقبة من طرف واحد، والمجاوزة من طرف واحد، وهكذا المعنى المجرد للفظة دون نظر أو دون قصد لوقوع ذلك بين طرفين فأكثر؛ ولهذا بعضهم مثل الزمخشري يقول: يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوَاْ إن هذا سبيل المبالغة، بيان دفعه - تبارك وتعالى - عنهم فعبر بلفظ المدافعة، وبعضهم يقول: لما كان جهاد هؤلاء الكفار في إيصال الأذى بكل سبيل مستطاع إلى أهل الإيمان جهداً كبيراً كما قال : وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ [سورة إبراهيم:46] عبر بمثل هذا إِنّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوَاْ، وكما سيأتي في قوله -تبارك وتعالى-: وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ [سورة الحج:51] معاجزين على هذه القراءة نفس الشيء، هل يمكن لهؤلاء أن يقوموا بدور مع الله ؟، أي يعجزونه، ويحاولون إعجازه فيفوتونه فلا يعاقبهم؟ ، فبعضهم قال: هذا على سبيل المبالغة، بعضهم قال: هذا لبيان شدة ما يجري على أيديهم وما يفعلونه، وما يسعون فيه من تثبيط، وتهبيط العزائم وما أشبه ذلك فاستعمل لهذا الاعتبار هذا اللفظ، ويأتي إن شاء الله، إِنّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوَاْ، الحكم المعلق على وصف يزيد بزيادته وينقص بنقصانه، إِنّ اللّهَ يُدَافِعُ عَنِ الّذِينَ آمَنُوَاْ الوصف الإيمان، والحكم المرتب عليه المدافعة، فالحكم المرتب على وصف يزيد بزيادة الوصف وينقص بنقصانه، مدافعة الله عن أهل الإيمان تكون بحسب ما يكون لهم من تحقيق هذه الصفة، فعلى قدر إيمان العبد على قدر ما يحصل من دفاع الله عنه، يدافع عنه السوء والشر وما إلى ذلك، على قدر الإيمان على قدر ما يحصل لنا من مدافعة الله - تبارك وتعالى - عنا، وهكذا الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ [سورة الأنعام:82] يكون لهم الأمن والاهتداء على قدر ما عندهم من الإيمان.
الكفر أوسع من هذا، لكنه أحد أنوع الكفر، في قوله - تبارك وتعالى -: لاَ يُحِبّ كُلّ خَوّانٍ كَفُورٍ خوان على زنة فعّال، وكفور علي زنه فعول وهذه صيغ مبالغة، هنا يرد سؤال وهو أن لاَ يُحِبّ كُلّ خَوّانٍ كَفُورٍ؟ هل ينفي عن الخائن؟ لا، هل ينفي عن الكافر؟ لا ما هو كفور، الكفور كثير الكفران، والخوان كثير الخيانة، والله لا يحب كل خوان كفور، قد يقال: إن من وقعت منه الخيانة - ليس كثيراً - فإن الله يحبه، الله لا يحب الخائنين، وقال في الكافرين أيضاً فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ [سورة آل عمران:32]، ولا يحب الظالمين، يعني فهذه لاَ يُحِبّ كُلّ خَوّانٍ كَفُورٍ ذكرت صيغة المبالغة لكن ذلك لا ينفي عمن وقع منه شيء من ذلك، فالله لا يحبهم بدليل الآيات الأخرى.