الجمعة 16 / ذو الحجة / 1446 - 13 / يونيو 2025
فَجَعَلْنَا عَٰلِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ

المصباح المنير المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المصنف - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ۝ فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ ۝ إِنّ فِي ذَلِكَ لآيات لِلْمُتَوَسّمِينَ ۝ وَإِنّهَا لَبِسَبِيلٍ مّقِيمٍ ۝ إِنّ فِي ذَلِكَ لآية لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة الحجر:73-77].

يقول تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ: وهي ما جاءهم به من الصوت القاصف عند شروق الشمس - وهو طلوعها - وذلك مع قلب بلادهم وجعل عاليها سافلها، وإرسال حجارة السجيل عليهم، وقد تقدم الكلام على السجيل في هود بما فيه كفاية، وقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ أي: إن آثار هذه النقم الظاهرة على تلك البلاد لمن تأمل ذلك وتوسمه بعين بصره وبصيرته، كما قال مجاهد في قوله: لِلْمُتَوَسِّمِينَ قال: المتفرسين، وعن ابن عباس - ا - والضحاك: للناظرين. وقال قتادة: للمعتبرين، وقال مالك عن بعض أهل المدينة: لِلْمُتَوَسِّمِينَ للمتأملين.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد:

فقوله تعالى: حِجَارَةً مّن سِجّيلٍ جاء السجيل مفسراً في قوله: مُسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ [سورة الذاريات:34] أي: معلمة، وأحسن ما يفسر به القرآن القرآن، وقال في موضع آخر: لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ [سورة الذاريات:33]، فيكون ذلك تفسيراً للسجيل، وهذا من تفسير اللفظة بلفظة أوضح منها وأكثر استعمالاً، وقوله: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ قال: الحافظ رحمه الله: "لمن تأمل ذلك وتوسمه بعين بصره وبصيرته"، يعني بعين بصره أنه ينظر نظر المتأمل المتفحص، وبصيرته بأن يجيل فكره بما يرى، "كما قال مجاهد: للمتفرسين، ونقل عن ابن عباس والضحاك: للناظرين، وقال قتادة: للمعتبرين، وقال مالك عن بعض أهل المدينة: لِلْمُتَوَسِّمِينَ للمتأملين"، كل هذه العبارات متقاربة، وما نقل من أنه للناظرين، هو من باب التعبير بما يقرب المعنى، وإلا فلا شك أن المتفرسين ليس المراد به الناظرين، وإنما التفرس يكون نظراً وزيادة، وذلك بأن ينظر الإنسان نظر تفحص وتأمل؛ ولهذا عبر من عبر بالمتفرسين والمتأملين، فهذا هو نظر الاعتبار، والله قال عن فقراء المهاجرين: تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ [سورة البقرة:273] أي: بما يظهر عليهم من الحاجة والفقر في تقاطيع وجوههم، من شحوب ونحو ذلك، وهكذا في ثيابهم ولباسهم، وأحوالهم كلها، قال: لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ [سورة البقرة:273]، تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ يعرفهم المتفرس في أحوالهم.

 

مرات الإستماع: 0

ثم قال: مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي: ما عرفوا قدر الله وعظمته حين عبدوا معه غيره، من هذه التي لا تقاوم الذباب لضعفها وعجزها، إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ أي: هو القوي الذي بقدرته وقوته خلق كل شيء، وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ [سورة الروم:27]، إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ ۝ إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ [سورة البروج:12-13]، إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ [سورة الذاريات:58].

وقوله: عَزِيزٌ أي: قد عز كل شيء فقهره وغلبه، فلا يمانَع ولا يغالب، لعظمته وسلطانه، وهو الواحد القهار.

قوله: ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ الأقرب - والله تعالى أعلم - عند الترجيح بين الأقوال هو ما ذكر ابن جرير - رحمه الله - بمعنى أن الله قال: وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ [سورة الحج:73] فهي تطلب خلاصه واسترجاعه، قال: ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ فالصنم يريد أن يسترجع هذا الشيء الذي أُخذ فهو طالب، والذباب مطلوب، والمقصود أن الله - تبارك وتعالى - بيّن حال هذه الآلهة المعبودة من جهة عجزها عن خلق أضعف الأشياء قدراً وهو الذباب، بأنها لا تستطيع أن تخلق ذباباً، لا تستطيع أن تستخلص ما سلبه الذباب منها مما يوضع عليها من طيب ونحو ذلك، ولا حاجة لتفخيم ما حقره الله ، أو ذُكر على سبيل بيان حقارته فيفخم كما يذكر بعض من تكلم في الإعجاز العلمي، فإذا سمعتَهم يتكلمون عن الذباب تجد أنهم يذكرون كيف أنه إذا امتص شيئاً فإنه يتحول إلى شيء آخر لا يمكن للبشر أن يرجعوه إلى طبيعته السابقة. أنتم الآن تضخمون الموضوع، والله - تبارك وتعالى - تكلم عن الأصنام هذه أنها لا تستطيع أن تستخلص هذا الذي أخذه الذباب منها، صاحب التفسير العلمي هذا الذي يتكلم الآن في هذه القضية يقول: إن البشر لا يستطيعون إرجاع هذا الشيء الذي امتصه الذباب؛ لأنه يفرز عليه إفرازات معينة ويتحول إلى مادة أخرى تماماً لا يمكن إرجاعه إلى حالته السابقة، ليس الكلام في تعظيم شأن الذباب، وكيف أن الذباب عنده هذه القدرة القوية التي أودعها الله ، فيحول هذه الأشياء إلى مواد أخرى، لو اجتمع البشر جميعاً على أن يرجعوها إلى حالها السابقة لا يستطيعون، فأنت بهذا الكلام جعلت الذباب شيئاً هائلاً، وليس المقصود هذا، وليس المقصود أن الناس بمختبراتهم ومعاملهم لا يستطيعون استرجاع ما أخذه الذباب، فالكلام في هذه الأصنام التي لا تنفع ولا تضر وما تستطيع أن تأخذ هذا الشيء من الذباب بعد أن سلبه منها، فهي جمادات لا نفع فيها ولا ضر، هذا المخلوق الحقير لا تدفعه عن نفسها، ولا تستطيع خلقه، ولا إرجاع ما استلبه منها، ومثلما يقولون في البعوضة أيضاً: إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً [سورة البقرة:26] ذكر الشيء الصغير الحقير يضرب به المثل فيأتون ويتكلمون عن البعوضة أنها مخلوق هائل، ويذكرون فيها من الخراطيم والأشياء والقدرات العجيبة، تفرز مادة وكذا، ويذكرون أشياء إذا قرأتها تخيل لك أن هذه البعوضة طيارة أباتشي، فالله ذكر هذه البعوضة على أنها مخلوق بسيط صغير لا يستحيي – تبارك وتعالى - أن يضرب به المثل للدلالة على معنى من المعاني، وهؤلاء يضخمون موضوع البعوضة جداً وهذا خلاف مقصود القرآن، ولكن هؤلاء كثير منهم يتكلم بلا علم، فيأتون بهذه الأمور المخالفة لمقصود الشارع من سياق هذه الآيات وتقريرها، الله يريد أن يحقرها وهم يأتون ويعظمونها.

قال الإمام ابن القيم - رحمه الله - في قوله تعالى:  يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ... الآية: "حقيق على كل عبد أن يستمع قلبه لهذا المثل، ويتدبره حق تدبره، فإنه يقطع مواد الشرك من قلبه؛ وذلك أن المعبود أقل درجاته أن يقدر على إيجاد ما ينفع عابده، وإعدام ما يضره، والآلهة التي يعبدها المشركون من دون الله لن تقدر على خلق الذباب ولو اجتمعوا كلهم لخلقه فكيف ما هو أكبر منه؟!، ولا يقدرون على الانتصار من الذباب إذا سلبهم شيئا مما عليهم من طيب ونحوه فيستنقذوه منه، فلا هم قادرون على خلق الذباب الذي هو من أضعف الحيوانات، ولا على الانتصار منه واسترجاع ما سلبهم إياه، فلا أعجز من هذه الآلهة، ولا أضعف منها فكيف يستحسن عاقل عبادتها من دون الله؟!، وهذا المثل من أبلغ ما أنزله الله سبحانه في بطلان الشرك وتجهيل أهله وتقبيح عقولهم، والشهادة على أن الشيطان قد تلاعب بهم أعظم من تلاعب الصبيان بالكرة، حيث أعطوا الإلهيّة التي من بعض لوازمها القدرة على جميع المقدورات والإحاطة بجميع المعلومات والغنى عن جميع المخلوقات وأن يُصعَد إلى الرب في جميع الحاجات وتفريج الكربات، وإغاثة اللهفات وإجابة الدعوات فأعطوها صورا وتماثيل يمتنع عليها القدرة على أقل مخلوقات الآلهة الحق وأذلها وأصغرها وأحقرها، ولو اجتمعوا لذلك وتعاونوا عليه.

وأدل من ذلك على عجزهم وانتفاء الإلهيّة عنهم أن هذا الخلق الأقل الأذل العاجز الضعيف لو اختطف منهم شيئا واستلبه فاجتمعوا على أن يستنقذوه منه لعجزوا عن ذلك ولم يقدروا عليه، ثم سوى بين العابد والمعبود في الضعف والعجز بقوله: ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ قيل الطالب: العابد، والمطلوب: المعبود، فهو عاجز متعلق بعاجز وقيل: هو تسوية بين السالب والمسلوب، وهو تسوية بين الإله والذباب في الضعف والعجز، وعلى هذا فقيل: الطالب: الإله الباطل، والمطلوب: الذباب يطلب منه ما استلبه منه، وقيل الطالب: الذباب والمطلوب: الإله، فالذباب يطلب منه ما يأخذه مما عليه، والصحيح أن اللفظ يتناول الجميع، فضعف العابد والمعبود والمستلِب والمستلَب، فمن جعل هذا إلها مع القوي العزيز فما قدره حق قدره ولا عرفه حق معرفته ولا عظمه حق تعظيمه"[1].

وقال ابن جرير الطبري - رحمه الله -: "يقول - تعالى ذكره -: يا أيها الناس جُعل لله مثل وذكر، ومعنى ضُرب في هذا الموضع: جُعل من قولهم: ضَرب السلطان على الناس البعث، بمعنى: جَعل عليهم، وضرب الجزية على النصارى، بمعنى جعل ذلك عليهم، والمَثَل: الشَّبَه، يقول جلّ ثناؤه: جُعل لي شبه أيها الناس، يعني بالشَّبَه والمَثَل: الآلهة، يقول: جعل لي المشركون الأصنامَ شبها، فعبدوها معي، وأشركوها في عبادتي. فاستمعوا له: يقول: فاستمعوا حال ما مثلوه وجعلوه لي في عبادتهم إياه شبها، وصفته: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا يقول: إن جميع ما تعبدون من دون الله من الآلهة والأصنام لو جمعت لم يخلقوا ذبابا في صغره وقلته، لأنها لا تقدر على ذلك ولا تطيقه، ولو اجتمع لخلقه جميعها، والذباب واحد، وجمعه في القلة أَذِبّة وفي الكثير ذِبَّان، غُراب، يجمع في القلة أَغْرِبَة، وفي الكثرة غِرْبان.

وقوله: وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا يقول: وإن يسلب الآلهةَ والأوثانَ الذبابُ شيئا مما عليها من طيب وما أشبهه من شيء لا يستنقذوه منه: يقول: لا تقدر الآلهة أن تستنقذ ذلك منه.

واختلف في معنى قوله: ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ فقال بعضهم: عَني بالطالب: الآلهة، وبالمطلوب: الذباب"[2].

  1. إعلام الموقعين عن رب العالمين، للإمام ابن القيم (1/214).
  2. جامع البيان في تأويل القرآن، لابن جرير الطبري (18/685).