أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [سورة النحل:1].
يخبر تعالى عن اقتراب الساعة ودنوها معبراً بصيغة الماضي الدال على التحقق والوقوع لا محالة، كقوله: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ [سورة الأنبياء:1]، وقال: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ [سورة القمر:1]. وقوله: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ أي: قرُبَ ما تباعد فلا تستعجلوه، كما قال تعالى: وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ [سورة العنكبوت:53-54].
فقوله - تبارك وتعالى -: أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ، مَن نظر إلى صيغة الماضي وأراد أن يفسر الكلام بمقتضاها قال: أَتَى أَمْرُ اللّهِ يعني التكاليف، أي ما يؤمر الله به عباده، من الحلال والحرام، ولكن هذا وإن قال به بعض السلف مراعياً لظاهر اللفظ إلا أنه بعيد؛ وذلك أن أحداً لم يستعجل هذه الفرائض والأحكام والأمر والنهي حتى ينزل فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ، والقاعدة: "أنه يعبر بالماضي عن المستقبل إيذاناً بتحقق الوقوع"، فما كان متحقق الوقوع بلا مرية فقد يعبر عنه بالماضي، أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ، فهو آتٍ لا محالة، كقوله - تبارك وتعالى -: وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ [سورة الأعراف:50]، وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ [سورة الأعراف:48]، وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا [سورة الأعراف:44]، وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ... [سورة غافر:49]، وما أشبه ذلك وهو كثير في القرآن، {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} [سورة ق:20]، كل هذا عبر فيه بالماضي عن أمر في المستقبل، ولا إشكال في هذا، وهو الذي عليه عامة المفسرين، وبعضهم فسره بهذا الأمر المنتظر أي: القيامة، كما دل عليه ظواهر القرآن في مواضع متعددة، يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا [سورة الشورى:18] يعني: الآخرة، الساعة، يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا [سورة النازعات:42]، كانوا كثيراً ما يسألون عنها، ويستعجلون بها، وممن فسروه بأنه يتعلق بأمر مستقبل عُبر عنه بالماضي يقول: هذا الذي استعجلوه هو العذاب، كما قال الله : وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ [سورة الحـج:47]، وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ [سورة الرعد:6]، وقالوا: عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا [سورة ص:16] يعني: نصيبنا، {قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} [سورة ص:16]، وما شابه ذلك في كتاب الله ، وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله - والأقرب - والله أعلم - أن قوله: أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ [سورة النحل:1] أي: الساعة، فهي قريبة، والله يقول: وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا [سورة الأحزاب:63] وكذلك النبي ﷺ يقول: بعثت أنا والساعة كهاتين[1].
وروى ابن أبي حاتم عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله ﷺ: تطلع عليكم عند الساعة سحابة سوداء من المغرب مثل الترس، فما تزال ترتفع في السماء ثم ينادي منادٍ فيها: يا أيها الناس، فيقبل الناس بعضهم على بعض: هل سمعتم؟ فمنهم من يقول: نعم، ومنهم من يشك، ثم ينادي الثانية: يا أيها الناس، فيقول الناس بعضهم لبعض: هل سمعتم؟ فيقولون: نعم، ثم ينادي الثالثة: يا أيها الناس أتى أمر الله فلا تستعجلوه، قال رسول الله ﷺ: فوالذي نفسي بيده، إن الرجلين لينشران الثوب فما يطويانه أبداً، وإن الرجل ليمدن حوضه فما يسقي فيه شيئاً أبداً، وإن الرجل ليحلب ناقته فما يشربه أبداً قال: ويشتغل الناس[2].
ثم إنه تعالى نزه نفسه عن شركهم به غيره وعبادتهم معه ما سواه من الأوثان والأنداد، تعالى وتقدس علواً كبيراً، وهؤلاء هم المكذبون بالساعة فقال: سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ.
- رواه البخاري، باب قول النبي ﷺ: بعثت أنا والساعة كهاتين، برقم (6139)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب قرب الساعة، برقم (2951)، من حديث أنس بن مالك .
- رواه الطبراني في المعجم الكبير برقم (14313)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة برقم (5009).