وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لّلصّابِرينَ وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مّمّا يَمْكُرُونَ إِنّ اللّهَ مَعَ الّذِينَ اتّقَواْ وّالّذِينَ هُم مّحْسِنُونَ [سورة النحل:126-128].
يأمر تعالى بالعدل في القصاص والمماثلة في استيفاء الحق، كما قال عبد الرزاق عن ابن سيرين أنه قال في قوله تعالى: فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ إن أخذ منكم رجل شيئاً فخذوا مثله، وكذا قال مجاهد وإبراهيم والحسن البصري وغيرهم، واختاره ابن جرير.
وقال ابن زيد: كانوا قد أمروا بالصفح عن المشركين فأسلم رجال ذوو منعة فقالوا: يا رسول الله لو أذن الله لنا لا نتصرنا من هؤلاء الكلاب، فنزلت هذه الآية، ثم نسخ ذلك بالجهاد.
في قوله تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ، نقل الحافظ ابن كثير - رحمه الله - عن جماعة من السلف: "إن أخذ منكم رجل شيئاً فخذوا مثله"، هذه مسألة معروفة في الفقه، تسمى مسألة الظفر، ولها صورتين، الصورة الأولى: لو أن الإنسان وجد ماله عند من غصبه أو ظلمه، أو جحده، استعار منه متاعاً ثم جحده، ووجد عين المال، فهل له أن يأخذه خلسة؟ هذه صورة، والصورة الثانية: لم يجد عين المال، لكن هذا إنسان يعمل أجيراً عند أحد مثلاً، وظلمه ولم يعطه أجرته، ووجد مالاً لهذا الإنسان الذي جحده، فهل له أن يقتص ويأخذ بقدر ما أخذ منه أو لا؟ هذا الإنسان اشترى شيئاً ولم يعطه الثمن، ثم بعد ذلك استطاع أن يضع يده على شيء من ماله هل له أن يأخذ منه أو لا؟ هذه المسألة فيها خلاف بين أهل العلم، منهم من يقول: أما إذا وجد عين المال فيأخذ المال، لكن لو لم يجد عين المال، فهل له أن يأخذ من ماله أو لا؟ من أهل العلم من يقول: لا يأخذ؛ لأن هذا ليس بعين ماله، والنبي ﷺ يقول: أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك[1] فقالوا: هذه خيانة، قابل خيانته بخيانة، وبعض أهل العلم يقول: إن قوله: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ يدل على هذا، وذلك مشروط بأن لا يلحق هذا الإنسانَ تهمةٌ، أو فضيحةٌ، فيوقف على ذلك، ثم يخرج بعد هذا بصورة سارق، فإن كان يترتب عليه هذا فلا يفعل، لكن إن أمن هذه المفسدة قالوا: يأخذ، هذا قال به جماعة من السلف، والمسألة خلافية مشهورة، والمعنى أوسع من هذا، وقوله: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ حتى في الجنايات مثلاً، المماثلة في القصاص، لو أنه قتله دهساً بالسيارة عمداً، يقتل بهذه الطريقة، وليس المقصود أنه يدهسه هو من عند نفسه، وإنما يكون ذلك عن طريق السلطان؛ لئلا تكون أمور الناس فوضى، فيُسلَّم له فيقتل بنفس الطريقة، هذا قال به جماعة من أهل العلم، واستدلوا على هذا بما ورد عن النبي ﷺحيث فعل بالعرنيين الذين فعلوا براعي إبل الصدقة، سملوا عينيه، ففعل بهم كما فعلوا، ورض رأس يهودي بين حجرين؛ لأنه رض رأس يهودية، فقالوا: القصاص يكون بالمثل، إلا إن كان بشيء محرم، مثل لو أنه فعل الفاحشة بصبية فماتت، فلا يكون القصاص بمثل هذا، أو سقاه المسكر حتى مات، فلا يفعل به مثل هذا، لكن إن قتله بحجر قتل بحجر، وإن قتله بالسيف قتل بالسيف، قتله بسلاح آخر يقتل بمثله، وهذه الرواية التي ذكرها عن ابن زيد كما ترون هي من قبيل المرسل، كانوا قد أمروا بالصفح عن المشركين، فأسلم رجال...، وهذه الرواية لا تصح.
- رواه أبو داود، كتاب البيوع، باب في الرجل يأخذ حقه من تحت يده، برقم (3534)، وبرقم (3535)، والترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في النهي للمسلم أن يدفع إلى الذمي الخمر يبيعها له، برقم (1264)، وأحمد في المسند (24/150)، برقم (15424)، وقال محققوه: مرفوعه حسن لغيره، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (423)، وفي صحيح الجامع برقم (240).