الجمعة 11 / ذو القعدة / 1446 - 09 / مايو 2025
ٱدْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِٱلْحِكْمَةِ وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ ۖ وَجَٰدِلْهُم بِٱلَّتِى هِىَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِۦ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

ادْعُ إِلِىَ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنّ رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ [سورة النحل:125].

يقول تعالى آمراً رسوله محمداً ﷺ أن يدعو الخلق إلى الله بالحكمة، قال ابن جرير: وهو ما أنزله عليه من الكتاب والسنة وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، أي بما فيه من الزواجر والوقائع بالناس، ذكِّرهم بها ليحذروا بأس الله تعالى، وقوله: وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ أي: من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب، كقوله تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ [سورة العنكبوت:46] الآية، فأمره تعالى بلين الجانب كما أمر به موسى وهارون - عليهما السلام - حين بعثهما إلى فرعون في قوله: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [سورة طـه:44].

وقوله: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ الآية، أي قد علم الشقي منهم والسعيد، وكتب ذلك عنده وفرغ منه، فادعهم إلى الله ولا تذهب نفسك على من ضل منهم حسرات، فإنه ليس عليك هداهم إنما أنت نذير عليك البلاغ وعلينا الحساب إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [سورة القصص:56]، لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [سورة البقرة:272].

قوله: ادْعُ إِلِىَ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ قال: "يعني بالكتاب والسنة"، وفسر الموعظة الحسنة "بما فيه من الزواجر والوقائع بالناس"، والمعنى - والله أعلم - أعم من هذا، وابن القيم - رحمه الله - له كلام جيد خلاصته أنه يرى أن الدعوة تكون على مراتب بحسب أحوال الناس، فالقابل المستجيب يدعى بالحكمة، والذي عنده شيء من التباطؤ والغفلة يدعى بالموعظة الحسنة، ويحتاج إلى حفز وحث، فيذكر له ما يرغبه أو ما يرهبه، يحتاج إلى ترغيب وترهيب من أجل أن يُقبل على العمل الصالح، ومن كان عنده شبهة، أو أمور عارضة تحتاج إلى كشف وإزالة فمثل هذا يجادل بالتي هي أحسن، ولو قيل بأن الآية أيضاً أعم من هذا فإن ذلك لا يبعد، باعتبار أن الحكمة مطلوبة أصلاً مع الجميع، ولهذا جاءت الباء معها ادْعُ إِلِىَ سَبِيلِ رَبّكَ بِالْحِكْمَةِ أي: مستصحباً للحكمة، فالحكمة لا تفارق الدعوة إلى الله أياً كان حال المدعو، سواء كان مستجيباً أو غير مستجيب، والحكمة تقال للإصابة بالقول والعمل، وتكون بوضع الشيء في موضعه، وإيقاعه في موقعه، وهذا يُحتاج إليه في كل أحوال الدعوة إلى الله ، فإن الدعوة يحتاج الناس معها إلى الوعظ، الأمر والنهي المقرون بالترغيب والترهيب، ووصف الموعظة هنا بالحسنة؛ لأن الموعظة قد تكون شديدة، تنفر منها القلوب، فلابد من مراعاة هذا فيها، وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ، وقال: وَجَادِلْهُم بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وكذلك إذا احتيج إلى المجادلة فتكون بالتي هي أحسن، يعني بالطريقة التي هي أحسن، ولم يقل: بالطريقة الحسنة، وإنما جاء بأفعل التفضيل بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ، وذلك أن المقصود من الدعوة إلى الله بيان الحق، وأن يقبله الناس، ويقبلوا عليه، وينقادوا له، فهذا يجب أن يقدم بطريقة وأسلوب تتقبلها قلوب هؤلاء الناس، لا تقدم لهم الدعوة بطريقة تنفرهم، فيزهدون في الحق ويرغبون عنه، ولهذا جاء عن بعض السلف: ما رفقتَ بأحد إلا قبل منك.

ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في قوله: إِنّ رَبّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلّ عَن سَبِيلِهِ "أي: قد علم الشقي منهم والسعيد، وكتب ذلك عنده وفرغ منه، فادعهم إلى الله ولا تذهب نفسك على من ضل منهم حسرات، فإنه ليس عليك هداهم إنما أنت نذير عليك البلاغ وعلينا الحساب"، باعتبار أنه لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ فالله أعلم، يعني لا تذهب نفسك عليهم حسرات، وهناك معنى آخر وهو أنه ليس من شغلك الاشتغال بما في قلوبهم ونيّاتهم، وهل هؤلاء فعلاً قد أقبلوا على الحق رغبة فيه، أو لمعنىً في نفوسهم، أو لطمع من الدنيا، كما يقوله الكفار لأتباع الرسل - عليهم الصلاة والسلام -؟، ولهذا كان الرسل - عليهم الصلاة والسلام - يجيبونهم بأن ذلك ليس من شأننا، وإنما الذي يطلع على القلوب ويحاسب الناس على أعمالهم هو الله ، وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ [سورة هود:29]، فالداعية إلى الله يقدم الدعوة للناس وليس من شغله وليس من عمله أن يشتغل بما في نفوس هؤلاء الناس، وأن هذا ما قبل وما استجاب إلا لشيء من الدنيا أو لمقصود سيئ أو نحو هذا، فهذا ليس من عمله، وإنما هو كالمطر، ينشر الخير، ويعلم الناس، ويدعوهم إلى الله ، ولا يشتغل بما وراء ذلك، وما تنطوي عليه القلوب لله - تبارك وتعالى -.