الخميس 10 / ذو القعدة / 1446 - 08 / مايو 2025
إِنَّمَا جُعِلَ ٱلسَّبْتُ عَلَى ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُوا۟ فِيهِ ۚ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ فِيمَا كَانُوا۟ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المصنف - رحمه الله تعالى -: ثم قال تعالى منكراً على اليهود: إِنّمَا جُعِلَ السّبْتُ عَلَىَ الّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنّ رَبّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [سورة النحل:124].

لا شك أن الله تعالى شرع في كل ملة يوماً من الأسبوع يجتمع الناس فيه للعبادة فشرع تعالى لهذه الأمة يوم الجمعة لأنه اليوم السادس الذي أكمل الله فيه الخليقة واجتمعت فيه وتمت النعمة على عباده، ويقال: إن الله تعالى شرع ذلك لبني إسرائيل على لسان موسى فعدلوا عنه، واختاروا السبت لأنه اليوم الذي لم يخلق فيه الرب شيئاً من المخلوقات الذي كمّل خلقها يوم الجمعة، فألزمهم تعالى به في شريعة التوراة، ووصاهم أن يتمسكوا به وأن يحافظوا عليه مع أمره إياهم بمتابعة محمد ﷺ إذا بعثه، وأَخْذِه مواثيقهم وعهودهم على ذلك؛ ولهذا قال تعالى: إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، قال مجاهد: اتبعوه وتركوا الجمعة، ثم إنهم لم يزالوا متمسكين به حتى بعث الله عيسى ابن مريم، فيقال: إنه حولهم إلى يوم الأحد، ويقال: إنه لم يترك شريعة التوراة إلا ما نسخ من بعض أحكامها، وإنه لم يزل محافظاً على السبت حتى رفع، وإن النصارى بعده في زمن قسطنطين هم الذين تحولوا إلى يوم الأحد مخالفة لليهود، وتحولوا إلى الصلاة شرقاً عن الصخرة، والله أعلم.

وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أنه سمع رسول لله ﷺ قال: نحن الآخرون السابقون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه، فهدانا الله له، فالناس لنا فيه تبع: اليهود غداً والنصارى بعد غد[1] لفظ البخاري، وعن أبي هريرة وحذيفة - ا - قالا: قال رسول الله ﷺ: أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا، فكان لليهود يوم السبت، وكان للنصارى يوم الأحد، فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة، فجعل الجمعة والسبت والأحد، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة نحن الآخرون من أهل الدنيا، والأولون يوم القيامة، والمقضى بينهم قبل الخلائق[2] رواه مسلم.

فقوله - تبارك وتعالى -: إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - من أن الله شرّع لهم على لسان موسى ﷺ يوم الجمعة أن يكون عيداً لهم، فتركوه وأعرضوا عنه، واختاروا يوم السبت، فعلى هذا يكون هو الاختلاف المراد بقوله تعالى: عَلَىَ الّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ، واختلفوا على موسى ﷺ، وخالفوه، ولم يعملوا بمقتضى ما شرّعه لهم، وبعض أهل العلم يقول: إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ بمعنى أي فرض تعظيمه، وهذا لا يخالف القول الذي ذكره ابن كثير، إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ فرض عليهم تعظيمه حينما تركوا يوم الجمعة، فأُلزموا بمقتضى اختيارهم وهو يوم السبت، فصار ذلك اليوم لا يعملون فيه ولا يشتغلون بشيء من أشغالهم في الكسب وأعمالهم الدنيوية، فأُلزموا بمقتضى هذا، وصار يحْرم عليهم العمل في يوم السبت، والنصارى لشدة بغضهم لليهود - وهم من بني إسرائيل -، وللعداوة التي بين اليهود وبين النصارى ترك النصارى العمل بالتوراة، وبقوا بلا شريعة، فوضعوا لهم كتاباً سموه "الأمانة الكبرى"، فيه القانون، وصاروا يتحاكمون إليه بعد أن تركوا العمل بالتوراة، وقوله: عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، من أهل العلم من يقول: إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ: أي وبال السبت، وبال هذا اليوم، وما وقع من المسخ بسببه لبعض بني إسرائيل، مثل القرية التي كان أهلها يعدون في السبت، فمسخوا بسبب هذه العدوان لما ابتلاهم الله ، وما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا هو الأقرب في المعنى إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ، وبعد ذلك أُقروا عليه، وفُرض عليهم تعظيمه.

وفي قول ابن كثير - رحمه الله -: "لأنه اليوم السادس الذي أكمل الله فيه الخليقة، يعني يوم الجمعة"، يوم الجمعة هو اليوم السادس بأي اعتبار؟ باعتبار أول يوم صار فيه الخلق هو يوم الأحد، فالجمعة هو السادس، فاليهود اختاروا يوم السبت باعتبار أنه لم يحصل فيه خلق، ويوم الجمعة هو المناسب لأن يكون عيداً؛ لأنه اليوم الذي فيه اكتمال الخلق، وأما النصارى فاختيارهم ليس له معنى أصلاً، فيوم الأحد أول يوم في الخلق، والله المستعان، السبت يأتي بعدة معانٍ: منها القطع، يعني ينقطعون من أعمالهم وأشغالهم، فيكون هذا اليوم بالنسبة لهم يوم إجازة، وهذا في دينهم، ولكن المسلمين - في التعليق على اقتضاء الصراط المستقيم - لا يجوز لهم أن يتخذوا يوم الجمعة يوماً يتفرغون فيه من كل أشغالهم، بمعنى لا يعملون في شيء من عمل الدنيا، وليس معنى هذا أنه لا يكون إجازة رسمية، لأن الناس يحتاجون إلى هذا، ليصلوا الجمعة، ولكن الذي عند اليهود هو أنه لا يذهب إلى متجره ولا يبيع ولا يشتري ولا يصطاد ولا يزاول شيئاً من أعمال الدنيا، فينقطعون تماماً، فهذا هو الذي لا يجوز، وفعل ذلك يعتبر مضاهاة لليهود.

  1. رواه البخاري، كتاب الجمعة، باب فرض الجمعة، برقم (836)، ومسلم، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، برقم (855). 
  2. رواه مسلم، كتاب الجمعة، باب هداية هذه الأمة ليوم الجمعة، برقم (856).