قال المصنف - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [سورة النحل:17] الآية.
ثم نبه تعالى على عظمته وأنه لا تنبغي العبادة إلا له دون ما سواه من الأوثان التي لا تخلق شيئاً، بل هم يخلقون؛ ولهذا قال: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ، ثم نبههم على كثرة نعمه عليهم وإحسانه إليهم، فقال: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة النحل:18] أي: يتجاوز عنكم، ولو طالبكم بشكر جميع نعمه لعجزتم عن القيام بذلك، ولو أمركم به لضعفتم وتركتم، ولو عذبكم لعذبكم وهو غير ظالم لكم، ولكنه غفور رحيم، يغفر الكثير ويجازي على اليسير، وقال ابن جرير: يقول: إن الله لغفور لما كان منكم من تقصير في شكر بعض ذلك إذا تبتم وأنبتم إلى طاعته واتباع مرضاته، رحيم بكم لا يعذبكم بعد الإنابة والتوبة.
وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَالّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ [سورة النحل:19-21].
يخبر تعالى أنه يعلم الضمائر والسرائر كما يعلم الظواهر، وسيجزي كل عامل بعمله يوم القيامة، إن خيراً فخير وإن شراً فشر، ثم أخبر أن الأصنام التي يدعونها من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون، كما قال الخليل : أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [سورة الصافات:95-96]، وقوله: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ أي: هي جمادات لا أرواح فيها، فلا تسمع ولا تبصر ولا تعقل، وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ أي: لا يدرون متى تكون الساعة، فكيف يرتجى عند هذه نفع أو ثواب أو جزاء؟ إنما يرجى ذلك من الذي يعلم كل شيء وهو خالق كل شيء.
فقوله - تبارك وتعالى -: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا، الإحصاء ورد أيضاً في قوله ﷺ: من أحصاها دخل الجنة[1] أي أسماء الله الحسنى التسعة والتسعون، ومن معاني الإحصاء: الجمع، والإطاقة، وقوله: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا أي: لا تستطيعون عدها وحصرها، ولا تطيقون القيام بحقها وشكرها، فهذا كله داخل في قوله - تبارك وتعالى -: لا تُحْصُوهَا، وقوله - تبارك وتعالى -: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ عن المعبودات التي يعبدونها من دون الله ، معلوم أن الأموات غير أحياء، ولكن الله ذكر ذلك في حقها غَيْرُ أَحْيَاءٍ أي: أنه لم يكن فيها حياة ففقدتها، فهي غير قابلة للحياة أصلاً، بخلاف الميت كان حياً ثم مات، ومن الأشياء ما لا يكون فيه القابلية أصلاً للحياة، وهو الذي يعبر عنه أهل الكلام والمنطق، وموجود في كتب ردود شيخ الإسلام - كالتدمرية في الرد على المناطقة - ما يسمى بالعدم والملكة، فلو قيل: هذه السارية لا تموت، وقيل: زيد لا يموت، فرق بين هذا وهذا، فالسارية حينما تنفى عنها الحياة هي غير قابلة للحياة أصلاً، لكن حينما تُنفى عن زيد الحياة فهذا نفي وصف يقبله، وقوله: أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ، هذه أحجار وأخشاب وأشجار وما إلى ذلك، هي غير قابلة للحياة أصلاً، لم تكن فيها الحياة ثم فارقتها، فقال: أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ، فقوله: وَمَا يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ يحتمل معنيين: الأول: ما تشعر هذه المعبودات أيان يبعث من عبدها، هذا معنى، والمعنى الثاني: وما تشعر هذه المعبودات متى تبعث هي باعتبار أن الله قال: إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ [سورة الأنبياء:98]، وقال عن النار: وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ [سورة البقرة:24]، وفسرت الحجارة بأحجار الكبريت، وفسرت بالأصنام، ولا منافاة بين القولين، فهذه كلها تُلقى، النار يلقى فيها العابد والمعبود، إلا أن الله قال: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُم مِّنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ [سورة الأنبياء:101]، فالشاهد أن الآية تحتمل المعنيين، وَمَا يَشْعُرُونَ وما تشعر هذه المعبودات بوقت بعث من يعبدها، والمعنى الثاني: وما تشعر بوقت بعثها هي، والمعنى الأول أقرب، فقوله: وَمَا يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ يعني متى يبعث هؤلاء الذين يعبدونها ويتقربون إليها فهي لا عقل لها ولا فهم ولا إدراك، فليست بأهل للعبادة، ولو حملت الآية على المعنيين لم يكن ذلك بعيداً، فالقرآن يعبر بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، وإن كان المعنى الأول أقرب؛ لأنه قد يفهم من البعث: الإحياء، وهذه لا حياة فيها أصلاً، وإنما تؤخذ وتلقى في النار فحسب، وربما يشكل على القارئ أو السامع قول الله: وَمَا يَشْعُرُونَ فيظن أن الكلام يرجع إلى المشركين، وَمَا يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ أي: ما يشعر هؤلاء الكفار متى يبعثون، باعتبار أن العبارة جاءت هكذا وَمَا يَشْعُرُونَ، ومثل هذه الصيغ في الجموع إنما تأتي للعقلاء، يشعرون، يبعثون، وغير العقلاء يقال: وما تشعر أيان تبعث، كما أنه تستعمل لفظة "من" للعاقل، و"ما" لغير العاقل، ولكن يأتي هذا الاستعمال - فيما كان للعقلاء - لغير العقلاء إذا نزل غير العاقل منزلة العاقل، فهذه المعبودات جمادات غير عاقلة، لكن هؤلاء الكفار لم يجعلوها مجرد عاقلة بل جعلوها آلهة، وعبدوها من دون الله ، فأجري عليها ما يجرى على العقلاء من العبارات، كما قال يوسف ﷺ: وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ [سورة يوسف:4] والأصل أن يقال: ساجدة؛ لأنها غير عاقلة، وإنما يقال: سَاجِدِينَ للعقلاء، لكن لما أضاف إليها شيئاً من أفعال العقلاء وهو السجود أجرى عليها ما يجري عليهم من العبارات، وهذا كثير، والخطاب يكون تارة بحسب اعتقاد المتكلم، وتارة بحسب اعتقاد المخاطب، وتارة لمعنىً آخر، وهنا بحسب ما يعتقد فيها عبادها، فعاملها هذه المعاملة وَمَا يَشْعُرُونَ أَيّانَ يُبْعَثُونَ.
- رواه البخاري، كتاب الشروط، باب ما يجوز من الاشتراط والثُّنْيا في الإقرار والشروط التي يتعارفها الناس بينهم وإذا قال مائة إلا واحدة أو ثنتين، برقم (2585)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة، باب في أسماء الله تعالى وفضل من أحصاها، برقم (2677).