الّذِينَ تَتَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السّلَمَ مَا كُنّا نَعْمَلُ مِن سُوَءٍ بَلَىَ إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوَاْ أَبْوَابَ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبّرِينَ [سورة النحل:28-29].
يخبر تعالى عن حال المشركين الظالمين أنفسهم عند احتضارهم ومجيء الملائكة إليهم لقبض أرواحهم الخبيثة، فَأَلْقَوُاْ السّلَمَ أي: أظهروا السمع والطاعة والانقياد قائلين: مَا كُنّا نَعْمَلُ مِن سُوَءٍ كما يقولون يوم المعاد: وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ، يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ [سورة المجادلة:18] قال الله مكذباً لهم في قيلهم ذلك: بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ أي: بئس المقيل والمقام والمكان من دار هوان لمن كان متكبراً عن آيات الله واتباع رسله، وهم يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم، وينال أجسادهم في قبورها من حرها وسمومها، فإذا كان يوم القيامة سلكت أرواحهم في أجسادهم وخلدت في نار جهنم لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا [سورة فاطر:36]، كما قال الله تعالى: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ [سورة غافر:46].
قوله - تبارك وتعالى -: فَأَلْقَوُاْ السّلَمَ أحسن ما يفسر به - والله تعالى أعلم - ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - قال: "أي أظهروا السمع والطاعة والانقياد قائلين"، أي: الاستسلام، وهو أحد المعنيين اللذين فسر بهما قوله - تبارك وتعالى -: وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا [سورة النساء:94]، فقيل: الاستسلام، ألقى السلام أي الاستسلام، وهنا قال: فَأَلْقَوُاْ السّلَمَ يعني استسلموا وأذعنوا، ثم قالوا: مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ، وهذا لا يعارض قول الله - تبارك وتعالى -: وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثًا [سورة النساء:42]، فإن القيامة، وأحوال القيامة، والآخرة - منذ أن تقبض روح الإنسان ويبقى في البرزخ ويأتيه الملكان، ثم يبعث، ثم بعد ذلك يكون في ذلك الموقف الطويل - أحوال متعددة، فهم في البداية يكابرون كما ذكر الله ، ونقل الحافظ ابن كثير بعض الشواهد كقوله: وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ [سورة الأنعام:23]، فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ [سورة المجادلة:18]، فهم في البداية ينفون هذا، ثم بعد ذلك يختم الله على الأفواه، قال: وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ [سورة يــس:65]، فتتكلم الجوارح وتشهد الجلود، {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [سورة فصلت:21]، فحينما يكون الإنسان بهذه الحال، وبهذه المثابة، وتشهد عليه جوارحه فإنه بعد ذلك لا يستطيع المكابرة والإنكار، فيقول لجوارحه: بعداً لكنّ وسحقاً فعنكنّ كنت أناضل[1] كما جاء في الحديث، ففي البداية ينكر ثم يقر ويعترف بعد أن تشهد جوارحه، مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ [سورة النحل:28] ثم قال الله : فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ المثوى: هو مكان الثواء، كما يقال: المجثم مكان الجثوم، والمبرك مكان البروك، معاطن الإبل: مبارك الإبل، وهكذا في مثل هذا الاستعمال.
- رواه مسلم، كتاب الزهد والرقائق، برقم (2969)، من حديث أنس بن مالك .