الأحد 29 / صفر / 1447 - 24 / أغسطس 2025
أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىٰ تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله: أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ أي: في تقلبهم في المعايش واشتغالهم بها في أسفارهم ونحوها من الأشغال الملهية، قال قتادة والسدي: تَقَلُّبِهِمْ أي: أسفارهم، كقوله: أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ ۝ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ [سورة الأعراف:97-98].

وقوله: فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ أي: لا يعجزون الله على أي حال كانوا عليه، وقوله: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ أي: أو يأخذهم الله في حال خوفهم من أخذه لهم، فإنه يكون أبلغ وأشد، فإن حصول ما يتوقع مع الخوف شديد؛ ولهذا قال العوفي عن ابن عباس - ا -: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ، يقول: إن شئت أخذته على أثر موت صاحبه وتخوفه بذلك، وكذا روي عن مجاهد والضحاك وقتادة وغيرهم، ثم قال تعالى: فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ أي: حيث لم يعاجلكم بالعقوبة، كما ثبت في الصحيحين: لا أحد أصبر على أذىً سمِعه من الله، إنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم[1]، وفيهما: إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ رسول الله ﷺ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [سورة هود:102][2]، وقال تعالى: وَكَأَيِّنْ مَنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ [سورة الحج:48].

المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في قوله - تبارك وتعالى -: أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ: "أي في تقلبهم في المعايش واشتغالهم بها في أسفارهم ونحوها من الأشغال الملهية"، ونقل عن بعض السلف: "أي تقلب هؤلاء في أسفارهم"، هذا هو المعنى المتبادر، أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ أي: ذهابهم ومجيئهم وتنقلاتهم وأسفارهم، هذه المعاني التي يذكرها السلف داخلة فيه، ومن أهل العلم من فسره بمعنىً آخر فقال: فِي تَقَلُّبِهِمْ: يعني على فرشهم، وذلك كقوله - تبارك وتعالى -: وَهُمْ نَائِمُونَ[سورة القلم:19]، وهذا فيه بعد، ولا يتبادر إلى الذهن، وإنما التقلب في الذهاب والمجيء، وطلب المعايش والسفر ونحو ذلك، هذا هو المتبادر، والقرآن إنما يحمل على الظاهر المتبادر، دون المعاني البعيدة.

يقول ابن كثير - رحمه الله -: في قوله تعالى: أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىَ تَخَوّفٍ: "أي أو يأخذهم الله في حال تخوفهم من أخذه لهم، فإنه يكون أبلغ وأشد"، ومعنى ذلك كما قال الله : أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ[سورة الأعراف:97]، فإذا جاءهم بأس الله بياتاً وهو نائمون، أو جاءهم ضحىً وهم يلعبون، فهم لاهون غافلون لا يتوقعون حصول هذا العذاب الذي ينزل بهم، فيقابله الأخذ على التخوف يعني أنهم حيث يتخوفون من الأخذ ونزول العقوبة، وله وجه، لكن غيره أولى منه - والله تعالى أعلم -، وذلك لأن تفسير الآية بالتنقّص عليه عامة المفسرين، بمعنى أن الله يأخذ هؤلاء على تخوف أي على تنقص، فلا يأخذهم أخذاً مستأصلاً بعذاب يستأصلهم ويقطع دابرهم، وإنما يأخذهم شيئاً فشيئاً، حتى يأتي على آخرهم، وهذا معروف في كلام العرب، ومنه الموقف الذي صار لعمر حينما سأل عن التخوف فقام له رجل وقال: إنه التنقص، في لغتهم، وسأله عن شيء يشهد لهذا فذكر له البيت المعروف، يصف الناقة:

تخوف الرحل منها تامكاً قرِداً كما تخوف عود النبعة السَّفِن

يعني: الرحل اشتد على الناقة فأثر في سنامها، وتامكاً قرداً: يعني فيه القراد، وهي دويبة معروفة تعيش غالباً في الإبل، والغنم.

السفِن الذي يصنع السفينة، ينحت وينقر العود الذي في مقدمها، فالشاهد أن التخوف فُسر بمعنى التنقص الواحد ثم الواحد، فالله - تبارك وتعالى - يقول: أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ يعني: العذاب المستأصل، ويقابله أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىَ تَخَوّفٍ، قد يقول قائل: إنه لا يتعارض مع القول الآخر المذكور قبله، وهو أن يأخذهم وهم في حال خوف وترقب، وذلك أنه إذا أخذ صاحبه تخوف الأخذ بعده، لكن من فسر بهذا التفسير المذكور لا يقصد هذا، وإنما يقصد أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَىَ تَخَوّفٍ أي: تنقص، أي أنه لا يستأصلهم إنما الواحد بعد الآخر، وقد يشكل على هذا المعنى بأن ذلك يقع لجميع الناس، فالناس يفنون بهذه الطريقة الواحد بعد الواحد، فهذا المسجد الذي يوجد فيه هؤلاء الناس بعد مدة لا يبقى منهم أحد، يفارقون هذه الدار، الواحد بعد الآخر، كما نشاهد القرن الماضي والذي قبله والذي قبله، كانوا كثيراً يملئون الأسواق والجوامع وغير ذلك، هل ماتوا جميعاً مرة واحدة؟ إنما يموت الواحد بعد الآخر حتى لا يبقى أحد، وهذا هو الأشهر، وقول من قال بأنه يأخذهم على تخوف يعني على تنقص هو اختيار ابن جرير - رحمه الله -، ومن أهل العلم من فسره بمعنىً أبعد من هذا، قال: عَلَىَ تَخَوّفٍ أي: على عجل، أي: يعاجلهم بالأخذ، ولكن هذا فيه بعد، والله أعلم.

  1. رواه البخاري، كتاب الأدب، باب الصبر على الأذى، برقم (5748)، ومسلم، كتاب صفة القيامة والجنة والنار، باب لا أحد أصبر على أذىً من الله ، برقم (2804)، من حديث أبي موسى .
  2. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ، برقم (4409)، ومسلم، كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم، برقم (2583).