الإثنين 23 / صفر / 1447 - 18 / أغسطس 2025
وَلَوْ يُؤَاخِذُ ٱللَّهُ ٱلنَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَٰكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَىٰٓ أَجَلٍ مُّسَمًّى ۖ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَـْٔخِرُونَ سَاعَةً ۖ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المصنف - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النّاسَ بِظُلْمِهِمْ مّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبّةٍ وَلَكِن يُؤَخّرُهُمْ إلَىَ أَجَلٍ مّسَمّىَ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ ۝ وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنّ لَهُمُ الْحُسْنَىَ لاَ جَرَمَ أَنّ لَهُمُ الْنّارَ وَأَنّهُمْ مّفْرَطُونَ [سورة النحل:61-62].

يخبر تعالى عن حلمه بخلقه مع ظلمهم وأنه لو يؤاخذهم بما كسبوا ما ترك على ظهر الأرض من دابة: أي لأهلك جميع دواب الأرض تبعاً لإهلاك بني آدم، ولكن الرب يحلم ويستر، وينظر إلى أجل مسمى، أي لا يعاجلهم بالعقوبة، إذ لو فعل ذلك بهم لما أبقى أحداً.

روى ابن جرير عن أبي سلمة قال: سمع أبو هريرة - ا - رجلاً وهو يقول: "إن الظالم لا يضر إلا نفسه، قال: فالتفت إليه، فقال: بلى والله، حتى إن الحبارى لتموت في وكرها بظلم الظالم"[1].

فقوله - تبارك وتعالى -: وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النّاسَ بِظُلْمِهِمْ مّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبّةٍ، ظاهر هذه الآية العموم فـ"دابة" نكرة في سياق النفي تفيد العموم، وإذا سبقت بـ"من" فإن ذلك ينقلها من حيز الظهور في العموم إلى حيز التنصيص الصريح في العموم، فهي نص صريح في العموم، مّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبّةٍ، فهذا عام لكل الدواب، يدل عليه قوله -تبارك وتعالى- في الآية الأخرى: مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ [سورة فاطر:45]، ومن أهل العلم من خص ذلك بالكفار، واحتج بالنصوص التي تدل على أنه لا تحمل وازرة وزر أخرى، وأن الله لا يؤاخذ أحداً بذنب غيره، فقالوا: إن هذا العموم الظاهر في اللفظ مراد به الخصوص، وأنتم تعرفون أن العموم ثلاثة أنواع: العام الباقي على عمومه، والعام المخصوص، يعني الذي ورد ما يخصصه، والنوع الثالث: هو العام لفظاً، لكنه خاص في المعنى، يعني أنه أطلق لفظاً عاماً على معنىً خاص، فبعضهم يقول: إن هذا من قبيل العام المراد به الخصوص، مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ المقصود الكفار؛ لأنهم هم أصحاب الظلم والإجرام العظيم، فالله يهلكهم، وإن اختلفت عبارات هؤلاء العلماء في المعنى المعبر عنه إلا أن ذلك يرجع إلى ما ذكرت، يعني بعضهم يقول: يهلك الآباء فيهلك بسبب هلاكهم النسل، وينقطع، وبعضهم يقول: يهلك الكفار، والأقرب - والله تعالى أعلم -، وهو الذي يدل عليه ظاهر القرآن، وتدل عليه النصوص الأخرى: أن المراد بذلك العموم، والنصوص دلت على أن الظالم إذا لم يؤخذ على يده عم الناسَ العذابُ، وأن هذا الظلم والفساد والإجرام يكون سبباً للعقوبات العامة، ما لم يغير ويؤخذ على يد هؤلاء، "أنهلك وفينا الصالحون؟" قال: نعم إذا كثر الخبث[2]، فيأتي البلاء والعذاب عاماً شاملاً للجميع، وإنما ينجي الله الذين ينهون عن السوء، وإذا نظرت إلى أعمال الخلق حتى أهل الإيمان منهم، فإن الإنسان لا يخلو من إساءة وظلم، ولا يخلو من تقصير في حق الله - تبارك وتعالى -، ولو يؤاخذنا الله بذنوبنا لما بقي من الناس أحد، ليس الكلام في الناس فحسب وإنما الكلام في الدواب، قد تموت الجعلان في جحرها، والحبارى في وكرها بسبب ظلم بني آدم، وبغيهم وعتوهم على الله - تبارك وتعالى -، وهذا أمر لا ينكر، والنبي ﷺ يقول: إلا منعوا القطر من السماء[3]، يعني إذا منع الأغنياء زكاة الأموال، منعوا القطر من السماء ولولا البهائم لم يمطروا، فإذا منع الناس القطر من السماء عم ذلك الجميع، الفقير الذي لا تجب عليه الزكاة أصلاً، والغني، والبهيمة، فهذان قولان، والأقرب حمل الآية على العموم، والضمير في قوله - تبارك وتعالى -: مّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبّةٍ، يرجع إلى الأرض، والأرض لم يرد لها ذكر قبل ذلك، فرجع الضمير إلى غير مذكور، وهذا لا إشكال فيه؛ لأنه إذا كان يفهم من السياق فإنه يمكن أن يرجع الضمير إليه، وإن لم يكن له ذكر سابق، كقوله - تبارك وتعالى - على أحد المعنيين في تفسير قوله : حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ [سورة ص:32]، ففسر ذلك بالخير وفسر بالشمس وهو الأشهر، حَتَّى تَوَارَتْ أي: الشمس، بِالْحِجَابِ، فالشمس لم يرد لها ذكر قبل ذلك، ولكن يفهم من السياق، كقول الشاعر:

أمَاوِيَّ ما يغني الثراءُ عن الفتى إذا حشرجتْ يوماً وضاق بها الصدرُ

إذا حشرجت: يعني النفس والروح، وذلك لم يرد له ذكر في كلام الشاعر قبله، وكقول الآخر:

حتى إذا ألقتْ يداً في كافر وأَجَنّ عوراتِ الثغور ظَلامُها

فرجع الضمير إلى غير مذكور.

  1. رواه ابن جرير في تفسيره (17/231)، والبيهقي في الشعب (6/54)، برقم (7479).
  2. رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب قصة يأجوج ومأجوج، برقم (3168)، ومسلم، كتاب الفتن وأشراط الساعة، باب اقتراب الفتن وفتح ردم يأجوج ومأجوج، برقم (2880)، من حديث زينب بنت جحش - ا - زوج النبي ﷺ.
  3. رواه ابن ماجه، كتاب الفتن، باب العقوبات، برقم (4019)، والطبراني في المعجم الكبير(12/446)، برقم (13619)، وحسنه الألباني في السلسلة الصحيحة برقم (106)، من حديث عبدالله بن عمر - ا -.