وقوله: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ أي: من البنات ومن الشركاء الذين هم عبيده، وهم يأنفون أن يكون عند أحدهم شريك له في ماله.
وقوله: وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى إنكار عليهم في دعواهم مع ذلك أن لهم الحسنى في الدنيا وإن كان ثم معاد ففيه أيضاً لهم الحسنى، وإخبار عن قيل من قال منهم، كقوله: وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيئُوسٌ كَفُورٌ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ [سورة هود:9-10]، وكقوله: وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ [سورة فصلت:50]، وقوله: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً [سورة مريم:77]، وقال إخباراً عن أحد الرجلين أنه: وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَداً وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْهَا مُنْقَلَباً [سورة الكهف:35-36]، فجمع هؤلاء بين عمل السوء وتمني الباطل بأن يجازوا على ذلك حسناً، وهذا مستحيل.
في قوله - تبارك وتعالى -: وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ قراءة غير متواترة: قراءة ابن عباس ومجاهد وأبو العالية وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكُذُبُ يعني: الألسنة الكاذبة، وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكُذُبُ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى، هذه الألسنة الكاذبة تزعم أن لهم الحسنى، والمعنى على هذه القراءة لا إشكال فيه، ولكن القراءة المتواترة وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى يمكن أن يقال في معناها - والله تعالى أعلم -: كأنه جعل قولهم هو عين الكذب، فإذا نطقت به ألسنتهم كانت واصفة لهذا الكذب، إذا نطقوا فإن نطقهم هذا يكون وصفاً لكذب، وهذا تعبر به العرب ويعرف في كلامهم، ويكون ذلك كالمبالغة في الوصف، كما يقولون: وجهه يصف الجمال أو الحسن، وعينها تصف السحر، فجعل العين هي الجمال، وجعل الوجه هو الحسن، فإذا قال: يصف وجهه الحسن، فإن ذلك على سبيل المبالغة، تصف عينها السحر، يعني أن عينها هي السحر، لما فيها من الجمال والجاذبية، وفي قراءة "الكُذُب" يكون الكُذُب صفة للألسن.
وفيما يتعلق بالحسنى، قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في قوله: أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى: "أن لهم الحسنى في الدنيا، وإن كان ثم معاد ففيه أيضاً لهم الحسنى"، أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى، الحسنى يمكن أن تفسر بهذا، فهي مؤنثة في الصيغة، يعني أن لهم الخلّة الحسنى، أو الصفة الحسنى، أو نحو ذلك، وفي أسماء الله الحسنى يعني أنها بالغة في الحسن غايته، فالحسنى هنا فسرها بعض أهل العلم بالجنة، والحافظ ابن كثير - رحمه الله - ذكر ما يدل على هذا، كقوله - تبارك وتعالى -: وَلَئِن رُّجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِندَهُ لَلْحُسْنَى [سورة فصلت:50] يعني: الجنة، لكن ابن كثير - رحمه الله - عبر بمثل هذه العبارة باعتبار أنهم لا يؤمنون بالآخرة أصلاً ولا بالجنة ولا بالنار، فهو يقول: أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى يعني: في الدنيا، فإذا افتُرض أن يكون البعث حقاً فإن العاقبة تكون لهم، والجنة هي مآلهم ومصيرهم، وابن جرير - رحمه الله - يقول: يوم القيامة: يعني الجنة، وهذا الذي رجحه الشنقيطي، - والله تعالى أعلم -، ووجْهُ كلام ابن كثير - رحمه الله - حتى قال هذا الكلام -: أنهم لا يؤمنون أصلاً بالآخرة، فهم يضيفون إلى أنفسهم الكمالات في الدنيا، وإن كان هناك بعث فتكون الجنة هي مصيرهم، بل قال ابن كثير - رحمه الله -: "إنكار عليهم في دعواهم مع ذلك أن لهم الحسنى في الدنيا وإن كان ثم معاد ففيه أيضاً لهم الحسنى"، ثم ذكر قول ابن جرير ورجحه، وكلامه الأول أعم من هذا، لأن المفسر أحياناً يكتب على فترات، ويغير بين حين وآخر، وابن جرير تجد له في تفسير الآية الواحدة كلاماً طويلاً، ثم يذكر أقوال السلف، ويفهم من أول كلامه معنىً، وفي آخره إذا جاء يرجح - أحياناً - يقول: قال أبو جعفر، ويذكر كلاماً يُفهم منه معنى آخر.
قوله - تبارك وتعالى - هنا: لاَ جَرَمَ أي: حقاً، أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ، ومفرطون ذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - لها معنيين، قال مجاهد ومن معه: "منسيون فيها مضيعون"، من قولهم: أفرطت فلاناً خلفي أي تركته، إذا خلفته ونسيته تقول: أفرطته، فهذا معنى أنهم متروكون، منسيون، مخلّفون في النار، كما قال الله : فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وهذا المعنى هو الذي اختاره كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -، يقول ابن كثير: "عن قتادة: مُّفْرَطُونَ أي: معجلون إلى النار من الفرط"، من قولهم: أفرطته في طلب الماء مثلاً، فهذا الفارط هو الذي يسبق الناس ليستقي لهم، ولهذا يقال في الصغير الذي يموت: إنه فرط، كأنه سبق أبويه إلى الآخرة أو الجنة، فالذي يتقدم الناس إلى الماء مثلاً يقال له ذلك، وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ على هذا المعنى يكون مفرطون: أي مقدمون إلى النار، معجلون إليها كما نقل عن قتادة، وفي قراءة أخرى في رواية ورش مُفرِطون أي: أنهم مسرفون في الذنوب، وهي سبب العذاب، وهناك قراءة أخرى، لكنها ليست متواترة، وَأَنَّهُم مُفَرِّطُونَ أي: مضيعون لأمر الله ، فهذه قراءات ثلاث في هذه الآية.
وبالنسبة للقراءات المتواترة إذا تعددت وكان لكل قراءة معنى فإنها تنزل منزلة الآيات المتعددة، ففي قوله: مُّفْرَطُونَ يحتمل معنى أنهم معجلون إلى النار، ويحتمل معنى أنهم متروكون منسيون في النار، وهذا كله تدل عليه هذه اللفظة في كلام العرب، والآية إذا كانت تدل على معنيين فأكثر ولم يوجد مانع من حملها عليها، فإنها تحمل على هذه المعاني جميعاً، ولا منافاة بين هذين المعنيين، فهم معجل بهم إلى النار، ويُتركون وينسون فيها لا يخرجون منها، فكل هذا تدل عليه هذه اللفظة، والقرآن يعبر به بالألفاظ القليلة الدالة على المعاني الكثيرة، والقراءة الأخرى وَأَنَّهُم مُفرِطون أي: في الذنوب والمعاصي، مسرفون فيها، فيكون هذا من قبيل ذكر السبب الذي أوجب لهم النار، والله أعلم.