الأحد 18 / ذو الحجة / 1446 - 15 / يونيو 2025
وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّىٰكُمْ ۚ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰٓ أَرْذَلِ ٱلْعُمُرِ لِكَىْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْـًٔا ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمّ يَتَوَفّاكُمْ وَمِنكُم مّن يُرَدّ إِلَىَ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ [سورة النحل:70].

يخبر تعالى عن تصرفه في عباده، وأنه هو الذي أنشأهم من العدم ثم بعد ذلك يتوفاهم، ومنهم من يتركه حتى يدركه الهرم - وهو الضعف في الخلقة -، كما قال الله تعالى: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً [سورة الروم:54].

وقوله: لِكَيْلا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً أي: بعدما كان عالماً أصبح لا يدري شيئاً من الفَنَد والخرف؛ ولهذا روى البخاري عند تفسير هذه الآية عن أنس بن مالك : أن رسول الله ﷺ كان يدعو: أعوذ بك من البخل والكسل والهرم، وأرذل العمر وعذاب القبر، وفتنة الدجال وفتنة المحيا والممات[1]. وقال زهير بن أبي سلمى في معلقته المشهورة:

سئِمتُ تكاليف الحياة ومن يعش ثمانين عاماً لا أبا لك يسأم
رأيتُ المنايا خبطَ عشواء مَن تُصب تمتْه ومن تُخطئ يُعمَّر فيهرم

قوله - تبارك وتعالى -: وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا [سورة الحـج:5]، أرذل الشيء هو أردؤه وأحطه، وأرذل العمر يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "ومنهم من يتركه حتى يدركه الهرم، وهو الضعف في الخلقة"، الله قد بيّن هذا، فقال: لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا، فهذا هو الذي يفسر به أرذل العمر، خلافاً لمن حد ذلك بسنة معينة فقال: إذا بلغ الخامسة والسبعين فهذا هو أرذل العمر، وبعضهم يقول: إذا بلغ التسعين، والصحيح أن مثل هذا لا يُحدّ؛ لأن الناس يتفاوتون، فمنهم من يبلغ الخامسة والسبعين وهو أحسن حالاً من ابن الخمسين، ومنهم من يبلغ التسعين وهو أحسن حالاً من ابن الستين، ويكون ممتعاً بسمعه وبصره وقواه، ولم يتغير، لكن أرذل العمر هو أن يتحول الإنسان إلى ما وصف الله : لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا، والأطباء يقولون: إن خلايا المخ عند الإنسان إذا تقدم به السن يموت بعضها، فإذا مات بعضها أصبح الإنسان يخلط، يدخل عليه ولده فيقول: من هذا، وتجلس عنده زوجته فيقول: هذه من؟، ويخرج من بيته ما يعرف يرجع، يحجرون عليه في البيت، يقفلون الأبواب مثل الطفل الصغير تماماً، يقفلون الباب على هذا الكبير الذي ربما كان صاحب رأي وحزم وقوة، يعامل كما يعامل الطفل الصغير، لا يخرج، انتبهوا له، لا أحد يترك الباب مفتوحاً، ولا يعرف عبادة ولا يعرف صياماً، ولا يعرف شيئاً، إذا قيل: تصوم؟ قال: نعم أنا صائم، وبعدها بلحظات يطلب الطعام، ويصلي ويتلفت، كالطفل الصغير، فهذا هو أرذل العمر، لكن الطفل الصغير ينتظر فيه الكمال، فليس هو بأرذل العمر، المرحلة التي يمر بها الصغير انتقال من نقص إلى كمال، هذا المنتظر فيه، وأما هذا فلا يرجى فيه بعد ذلك إلا المزيد من الضعف ثم الموت، ويحتاج إلى غيره في أخص شئونه، يضعف تماماً عن القيام بنفسه فضلاً عن أن يقوم بغيره فهذا أرذل العمر، وهو أصعب الأشياء على نفس الإنسان، ولذلك إن كان معه شيء من الإدراك والعقل فإن ذلك ربما يمرضه مرضاً فوق مرضه، واعتلالاً فوق علته أن يكون كَلاً على غيره، عبئاً عليهم، نسأل الله العافية، والعلماء ذكروا أن صاحب القرآن، وأهل القرآن لا يصلون إلى هذه المرحلة، لا يحصل لهم هذا الخرف، وذكر جماعة من أهل العلم، أن العلماء لا يردون إلى أرذل العمر، وبعضهم يربط بين هذه الآية وبين قول الله - تبارك وتعالى -: ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ [سورة التين:5]، ثم استثنى فقال: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ [سورة التين:6]، ففسروا قوله: {أَسْفَلَ سَافِلِينَ} بأرذل العمر، وقالوا: يستثنى منه الذين آمنوا وعملوا الصالحات، لكن الذي يظهر -والله أعلم- أن الآية هذه تتحدث عن أمر آخر، وليس أرذل العمر أو المراحل العمرية الطبيعية التي يمر بها الإنسان، فإن مراحل عمر الإنسان كما يقسمها بعضهم: مرحلة النشوء، ثم مرحلة الوقوف، التي هي مرحلة الشباب، ثم بعد ذلك تأتي مرحلة الضعف المحدود، بداية الضعف يعني: مرحلة الكهولة، ثم بعد ذلك يأتي الضعف الظاهر، وهي مرحلة الشيخوخة، يقولون: يمر بمرحلة الطفولة بتقسيماتها، من صبىً وغيره، ثم بعد ذلك تأتي مرحلة الشباب، ثم بعد ذلك تأتي مرحلة الكهولة، وبعضهم يحد الكهولة بالثلاثين، فإذا بلغ الثلاثين كان كهلاً، يأخذون هذا من قوله تعالى: وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً [سورة آل عمران:46] قالوا: إن عيسى رفع وهو في الثالثة والثلاثين أو قريباً من هذا، والله المستعان.

في قول زهير: رأيتُ المنايا خبطَ عشواء، هذا الكلام غير صحيح، وكل شيء بقدر الله - تبارك وتعالى -.

  1. رواه البخاري، كتاب التفسير، سورة الحجر، باب وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ [سورة النحل:70]، برقم (4430)، ومسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب التعوذ من العجز والكسل وغيره، برقم (2706).