ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ [سورة النحل: 75].
قال العوفي عن ابن عباس - ا -: هذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن، وكذا قال قتادة، واختاره ابن جرير، فالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء مثل الكافر، والمرزوق الرزق الحسن فهو ينفق منه سراً وجهراً هو المؤمن، وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد: هو مثل مضروب للوثن وللحق تعالى، فهل يستوي هذا وهذا؟ ولما كان الفرق بينهما ظاهراً واضحاً بيناً لا يجهله إلا كل غبي قال الله تعالى: الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ.
قوله - تبارك وتعالى -: ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْدًا مَّمْلُوكًا معلوم أن العبد مملوك، فهذه صفة كاشفة، ولماذا جيء بها هنا؟، لماذا لم يقل الله : "ضرب الله مثلاً مملوكاً" أو "مثلاً عبداً"؟ يمكن أن يقال بأن الجميع هم عباد الله ، وإنما المقصود هنا بالعبد: الرقيق الذي يباع ويشترى، وليس المراد بالعبودية هنا العبودية لله تعالى، عَبْدًا مَّمْلُوكًا، ووصفه هنا بأنه لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ؛ وهذا وصف آخر، عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ هذه الصفة الثالثة، ويمكن أن يقال: جيء بهذه الصفة باعتبار أن المكاتب يملك بعض التصرف، وهو لا زال يتصف بالرق، وهكذا أيضاً المأذون له من الأرقّاء في بعض التصرف، لكن هذا عبد مملوك غير مأذون له ولا يملك شيئاً من الحرية، فرقّه رقٌّ كامل، وهذه الآية ورد عن ابن عباس - ا - أنها نزلت في هشام بن عمر ومملوك له، هشام بن عمر كان ينفق ويبذل، وهذا المملوك بخلافه تماماً بل كان ينهاه عن النفقة، ويحثه على تركها، وهذا المملوك يقال له: أبو الجوزاء. يقول هنا: قال العوفي عن ابن عباس: هذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن عَبْدًا مَّمْلُوكًا لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ هذا هو الكافر، وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هذا المسلم، قال: وكذا قال قتادة واختاره ابن جرير، وقال مجاهد: هو مثل مضروب للوثن وللحق تعالى، للوثن: يعني لما عُبد من دون الله، يعني للآلهة المزعومة التي تعبد من دون الله، فالعبد المملوك المقصود به الوثن الذي لا يملك نفعاً ولا ضراً، والذي يتصرف التصرف المشار إليه من آتاه الله مالاً فهو ينفق منه سراً وجهراً، فيكون مثلاً ضربه الله لنفسه، فهل يستوي هذا وهذا؟، وبعضهم يقول: هذا المثل ضربه الله : العبد المملوك للوثن، ومن أعطاه الله مالاً ينفق منه سراً وجهراً هذا لعابد الوثن، فهو خير منه وأشرف منه، كيف يعبد حجراً؟ كيف يعبد ما لا يملك ولا ينفع ولا يضر؟ كيف ينحط الإنسان إلى هذه المرتبة؟!.
وقوله - تبارك وتعالى -: هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً [سورة هود:24]: يعني لا يستويان في الصفة بوجه من الوجوه وحال من الأحوال، فأين من يملك التصرف ومن لا ينفع ولا يضر ولا يملك هو شيئاً لنفسه، ولا يشعر بعابديه؟، ومعنى هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً: أي لا يستويان مثلاً، ونفي الاستواء يحمل على أعم المعاني، لا يستويان في شيء من الأشياء بحال من الأحوال، لا في القدرة ولا في التصرف ولا في الملك، وقوله - تبارك وتعالى -: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ بَلْ أَكْثَرُهُمْ وصف أكثرهم بأنهم لا يعلمون يمكن أن يقال بأن إطلاق ذلك على الأكثر يراد به الكل، وهذا كثير في القرآن، وأحياناً يعبر بعبارة أخرى، كأن يقول: فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ [سورة البقرة:88] أو نحو هذا باعتبار أن القليل ينزل منزلة العدم، أي لا يؤمنون أو لا يعقلون، وهنا بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ عبر بالأكثر وأراد الكل، باعتبار أن ما خرج عن الأكثر غير معتبر؛ لأن الشاذ والقليل لا حكم له، ويمكن أن يكون هذا باعتبار الخلق عموماً بَلْ أَكْثَرُهُمْ: يعني أكثر الخلق، لاَ يَعْلَمُونَ وقليل من هؤلاء الخلق هم أهل الإيمان والعلم الذين يعبدون الله ولا يشركون به شيئاً، ويحتمل أن يكون المراد بذلك أهل الإشراك باعتبار أن أكثر المشركين لا يعلمون، وفيهم من يعلم ولكنه لم ينتفع بعلمه، ويوجد قلة منهم يعلمون أن هذه الأصنام لا تنفع ولا تضر ولا حقيقة لها، والله أعلم.