وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ [سورة النحل:77-79].
يخبر تعالى عن كمال علمه وقدرته على الأشياء، في علمه غيب السموات والأرض، واختصاصه بعلم الغيب، فلا اطلاع لأحد على ذلك إلا أن يطلعه تعالى على ما يشاء، وفي قدرته التامة التي لا تخالَف ولا تمانَع، وأنه إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون، كما قال: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [سورة القمر:50]: أي: فيكون ما يريد كطرف العين، وهكذا قال ههنا: وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ كما قال: مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ [سورة لقمان:28]. ثم ذكر تعالى منته على عباده في إخراجه إياهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً، ثم بعد هذا يرزقهم السمع الذي به يدركون الأصوات، والأبصار التي بها يحسون المرئيات، والأفئدة وهي العقول التي مركزها القلب على الصحيح، وقيل: الدماغ، والعقل به يميز بين الأشياء ضارها ونافعها، وهذه القوى والحواس تحصل للإنسان على التدريج قليلاً قليلاً، كلما كبر زِيدَ في سمعه وبصره وعقله حتى يبلغ أشدَّه، وإنما جعل تعالى هذه في الإنسان ليتمكن بها من عبادة ربه تعالى، فيستعين بكل جارحة وعضو وقوة على طاعة مولاه.
كما جاء في صحيح البخاري عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال: يقول تعالى: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أفضل من أداء ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن دعاني لأجيبنه، ولئن استعاذ بي لأعيذنه، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته ولا بد له منه[1] فمعنى الحديث أن العبد إذا أخلص الطاعة صارت أفعاله كلها لله ، فلا يسمع إلا لله، ولا يبصر إلا لله، أي ما شرعه الله له، ولا يبطش ولا يمشي إلا في طاعة الله ، مستعيناً بالله في ذلك كله؛ ولهذا جاء في بعض رواية الحديث في غير الصحيح بعد قوله: ورجله التي يمشي بها: "فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي ولهذا قال تعالى: وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة النحل:78] كقوله تعالى في الآية الأخرى: قُلْ هُوَ الَّذِي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [سورة الملك: 23-24]، ثم نبه تعالى عباده إلى النظر إلى الطير المسخر بين السماء والأرض، كيف جعله يطير بجناحين بين السماء والأرض في جو السماء، ما يمسكه هناك إلا الله بقدرته تعالى التي جعل فيها قوى تفعل ذلك، وسخر الهواء يحملها ويسير الطير كذلك، كما قال تعالى في سورة الملك: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ [سورة الملك:19] وقال ههنا: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ.
قوله - تبارك وتعالى -: وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ، إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ يحتمل أن يكون المراد أن الله - تبارك وتعالى - قادر على أن يأتي بها في لمح البصر أو أسرع من لمح البصر، وكما قال الله - تبارك وتعالى -: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [سورة القمر: 50]، وبعض أهل العلم يقول: هذا في قربها عند الله - تبارك وتعالى - أي وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ في قربها بالنسبة لله - تبارك وتعالى - إلا كلمح البصر أو هو أقرب، وأما بالنسبة إلى الكفار الذين يستبعدون وقوعها فهي بعيدة الوقوع، لا يتوقعون وقوعها ولا يرجون ذلك، والله يقول: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا [سورة المعارج:6-7]: أي يوم القيامة، والأقرب - والله تعالى أعلم - أن المراد بذلك أن وقوع الساعة كلمح البصر، أي: أنها تقع بسرعة، كما أخبر النبي ﷺ في الحديث الذي يذكر فيه قيام الساعة، وذكر فيه أموراً منها: أن الرجلين يتبايعان الثوب فينشرانه فتقوم الساعة ولا يقع هذا البيع، والآخر الذي يصلح حوضه فلا يسقي منه، والآخر الذي يرفع الإناء إلى فيه ليشرب فلا يشربه[2]، وهكذا، فشأنها كما وصف من سرعة وقوعها، وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ، وهذا يدل على كمال قدرة الله - تبارك وتعالى -.
وقوله - تبارك وتعالى -: أَوْ هُوَ أَقْرَبُ هذا يقال فيه ما قيل في بعض نظائره، كقوله تعالى: وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [سورة الصافات:147]، فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى [سورة طه: 44]، والله يعلم أنه لا يتذكر ولا يخشى، لكن عبر بلعل، لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ التي للترجي، فمثل هذا - كما ذكرنا من قبل - من أهل العلم من يقول: إن الخطاب أو الكلام خرج فيه بحسب نظر المخاطب، فأمر الساعة بالنسبة إلى المخاطبين كلمح البصر أو هو أقرب، أما الله فهو يعلم ذلك بدقة، لا يخفى عليه شيء، أو تفسر (أو) بمعنى (بل) وعلى كل حال سبق الكلام على هذا المعنى، والله تعالى أعلم، وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ، وبعض أهل العلم يقول: إنه جيء بأو هنا أَوْ هُوَ أَقْرَبُ: للإبهام على المخاطبين.
وقوله: أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ، معنى مَا يُمْسِكُهُنَّ: ليس معناه ما يقبضهن كما قد يتوهم البعض، وإنما المقصود مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ: أي ما يقيمهن بين السماء والأرض فتحلق هذا التحليق، وتصفّ أجنحتها تارة وتحركها تارة وهي غير معلقة بشيء، ولا معتمدة على شيء، ولها جرم، وتقوم على هذا الهواء اللطيف ولا تسقط، من الذي يقيمها؟ هو الله - تبارك وتعالى -، هذا معنى مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ، كما قال الله : إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا [سورة فاطر:41].
- سنن البيهقي الكبرى: (3/346) (6188) وأصله في البخاري.
- أخرجه الحاكم في المستدرك: (4/582) برقم: (8622) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه.