قال المصنف - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَىَ حِينٍ وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّمّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلّكُمْ تُسْلِمُونَ فَإِن تَوَلّوْاْ فَإِنّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللّهِ ثُمّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ [سورة النحل:80-83].
يذكر - تبارك وتعالى - تمام نعمه على عبيده بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لهم، يأوون إليها، ويستترون بها، وينتفعون بها بسائر وجوه الانتفاع، وجعل لهم أيضاً من جلود الأنعام بيوتاً أي من الأدم، يستخفون حملها في أسفارهم ليضربوها لهم في إقامتهم في السفر والحضر؛ ولهذا قال: تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا أي: الغنم، وَأَوْبَارِهَا أي: الإبل، وَأَشْعَارِهَا أي: المعز - والضمير عائد على الأنعام - أَثَاثاً أي: تتخذون منه أثاثاً وهو المال، وقيل: المتاع، وقيل: الثياب، والصحيح أعم من هذا كله فإنه يتخذ من الأثاث البُسُط والثياب وغير ذلك، ويتخذ مالاً وتجارة، وقال ابن عباس - ا -: الأثاث المتاع، وكذا قال مجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير والحسن وعطية العوفي وعطاء الخرساني والضحاك وقتادة، وقوله: إِلَى حِينٍ أي: إلى أجل مسمى ووقت معلوم.
فقوله - تبارك وتعالى -: وَاللّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً، يقول الحافظ - رحمه الله -: "يذكر تعالى تمام نعمه على عبيده بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لهم يأوون إليها ويستترون بها، وينتفعون بها بسائر وجوه الانتفاع"، السكن: هو ما يسكن إليه الإنسان ويطمئن به، وذلك يكون في البيوت حيث إن الناس إذا أووا إلى بيوتهم سكنت نفوسهم فيها، ولا يدخل عليهم غيرهم إلا باستئذان، والواحد منهم ربما وضع ثيابه، أو جلس أو اضطجع كما يحلو له، ولا يكون مستوفزاً يتوقع في كل لحظة أن أحداً من الناس يدخل عليه، وإنما يكون دخول الآخرين عليه بعد الاستئذان، فهو سيد في بيته، يجد نفسه في هذا البيت من غير تكلف، ودون أن يقلق بسبب ملاحظته للآخرين، كما هو الحال لو أنه كان في مكان عام فإنه قد لا يتهيأ له ألوان الراحة، وقوله: وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الأنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَىَ حِينٍ، الأثاث هنا يمكن أن يحمل على هذه المعاني التي ذكرها السلف جميعاً، وقوله: إِلَىَ حِينٍ قال: أي إلى أجل مسمى ووقت معلوم، وهذا التفسير هو من قبيل حمل المعنى على الأعم؛ لأن من أهل العلم من فسر قوله: إِلَىَ حِينٍ بيوم القيامة، ومنهم من فسره بالموت، ومنهم فسره بالتلف، وما يحصل لها من البِلى، فهذه الملبوسات والبُسُط وما إلى ذلك تتلف بعد مدة، إلى غير ذلك من المعاني، وكبير المفسرين ابن جرير الطبري - رحمه الله - فسر ذلك بالموت، مَتَاعاً إِلَىَ حِينٍ إلى الموت، وبعضهم يقول: إلى القيامة، وكلام الحافظ ابن كثير - رحمه الله - أوسع من هذا كله، يقول: "أي إلى أجل مسمىً ووقت معلوم"، فالله لم يحدّ حداً وإنما قال: مَتَاعاً إِلَىَ حِينٍ فهم يتمتعون بها إلى أن تبلى، فالإنسان يتمتع بهذه الأثاث إلى أن يموت، فهذا يصدق عليه أنه إلى حين؛ لأن التمتع بها في الحياة الدنيا فحسب، فهي متاع بالنسبة إلى مجموع الناس، فهو متاع إلى حين، بما هيأ الله لهم من هذه الأنعام التي ينتفعون بها إِلَىَ حِينٍ إلى يوم القيامة، فهذا يصدق على ذلك جميعاً، فمن تمتع بها إلى أن بَلِيت فهو متاع إلى حين، ومن تمتع بها مدة حياته فهو متاع إلى حين، وبالنظر إلى مجموع الناس فهم يتمتعون بها في الدنيا جيلاَ بعد جيل، ثم بعد ذلك تنقضي هذه الحياة وينتقلون إلى الدار الآخرة، التي ليس فيها من هذا اللباس والأثاث الذي يستخرجونه من الأنعام.