الإثنين 14 / ذو القعدة / 1446 - 12 / مايو 2025
فَإِن تَوَلَّوْا۟ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ ٱلْبَلَٰغُ ٱلْمُبِينُ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله: فَإِنْ تَوَلَّوْا أي: بعد هذا البيان وهذا الامتنان، فلا عليك منهم فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ وقد أديته إليهم، يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا أي: يعرفون أن الله تعالى هو المسدي إليهم ذلك وهو المتفضل به عليهم ومع هذا ينكرون ذلك ويعبدون معه غيره ويسندون النصر والرزق إلى غيره وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ.

قوله - تبارك وتعالى -: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا قال ابن كثير - رحمه الله -: "أي يعرفون أن الله تعالى هو المسدي إليهم ذلك، وهو المتفضل به عليهم، ومع هذا ينكرون ذلك ويعبدون معه غيره ويسندون النصر والرزق إلى غيره"، فقوله: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا، أي: يعرفون نعمة الله مما ذكره وغير ما ذكر، ثم ينكرونها فيوجهون العبادة والشكر إلى غير المنعم، ويعبدون الأحجار التي هي في الأصل مسخرة لهم، ويعبدون الجن الذين هم دونهم في المرتبة، فالله أخرج إبليس وطرده من أجل أنه امتنع من السجود لآدم، ويعبدون بشراً مثلهم، أو يعبدون الملائكة الذين أمروا بالسجود لأبينا آدم ، وهم خلق من خلق الله ، ولا تصلح لهم العبادة، فهذا المعنى بهذا الاعتبار الذي ذكره الحافظ ابن كثير هو قول ظاهر، واختاره جمع من أهل العلم، منهم من المعاصرين الشيخ: محمد الأمين الشنقيطي - رحمه الله -، ومن أهل العلم من فسره بالنبوة، وهذا اختيار ابن جرير - رحمه الله -، فسره باعتبار ما قبله وما بعده، الله   - تبارك وتعالى - قال قبله: لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ، ثم قال بعده: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ [سورة النحل:84]، الأقرب - والله تعالى أعلم - ما ذكره الحافظ ابن كثير، و"نعمة" مفرد مضاف إلى معرفة، هو لفظ الجلالة، والمفرد إذا أضيف إلى معرفة يُكسبه العموم كما هو معروف، والمعنى يعرفون نعم الله ثم ينكرونها، وهذا يشمل سائر النعم التي أنعم الله بها عليهم، وقوله - تبارك وتعالى -: وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ بعضهم يقول: الكافرون بالنعمة، وبعضهم يقول: الكافرون بالله، والواقع أنهم كافرون بالنعمة وكافرون بالله؛ لأن مَن وجّه شكر النعم إلى غير المنعم فقد كفر بهذه النعمة، ومن عبد غير الله فهو كافر بالله، وهذا متحقق فيهم جميعاً، ووجه التعبير عن ذلك بالأكثر فلم يقل مثلاً: "وهم كافرون" مع أنهم كلهم كفار، قال بعض أهل العلم: عبر بالكثرة وأراد بذلك الجميع، وهذا أسلوب عربي معروف؛ لأن القليل وما خرج عن الكثير لا حكم له، ولا اعتبار، وإنما العبرة والنظر إلى الأكثر، وبعضهم يقول: إن ذلك باعتبار أن المراد هنا الكفر والجحود يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا أي: يجحدونها، ولم يكن كفر الجميع من هذا القبيل، فبعضهم كفْرُ جحودٍ، وبعضهم كفرُ إعراضٍ، فكفرهم متنوع، وبعضهم يقول بأن قوله: وَأَكْثَرُهُمُ أي: العقلاء منهم، فيخرج من ذلك غير المكلفين كالمجانين والأطفال، والقرآن كثيراً ما يعبر بالكثرة ويراد بها الكل، ولو قيل: إن قوله: وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ المراد به أن منهم من يقر بالنعمة، ويضيف ذلك إلى الله ، ولكنه يعبد مع الله غيره، فهذا الكلام على كل حال له وجه، ولكن ما قبله أولى منه لما ذكرتُ - والله أعلم -، من أن من أقر بهذه النعم ثم وجّه العبادة إلى غير من خلق فإنه لا يكون شاكراً بل يكون كافراً؛ ولهذا كان الشرك أظلم الظلم؛ لأنه يضع العبادة في غير من خلق ورزق وأنعم وتفضل، فالله هو الذي ينعم عليه ويتفضل عليه ويرزقه ثم يعبد حجراً أو شجراً، ويشكر غير الله، من لا يضره ولا ينفعه.