قال المصنف - رحمه الله - تعالى في تفسير قوله تعالى: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلاء شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ [سورة النحل:84-88].
يخبر تعالى عن شأن المشركين يوم معادهم في الدار الآخرة، وأنه يبعث من كل أمة شهيداً وهو نبيها، يشهد عليها بما أجابته فيما بلغها عن الله تعالى: ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ: أي في الاعتذار؛ لأنهم يعلمون بطلانه وكذبه، كقوله: هَذَا يَوْمُ لَا يَنطِقُونَ وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ[سورة المرسلات:35-36] فلهذا قال: وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ: أي: الذين أشركوا الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ: أي لا يفتر عنهم ساعة واحدة، وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ: أي: لا يؤخر عنهم بل يأخذهم سريعاً من الموقف بلا حساب، فإنه إذا جيء بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، فيشرف عنق منها على الخلائق، وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلا جثا لركبتيه، فتقول: إني وُكلت بكل جبار عنيد الذي جعل مع الله إلها آخر وبكذا وبكذا، وتذكر أصنافاً من الناس، كما جاء في الحديث، ثم تنطوي عليهم وتلتقطهم من الموقف كما يلتقط الطائر الحب، قال الله تعالى: إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا [سورة الفرقان:12-14]، وقال تعالى: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا [سورة الكهف:53] وقال تعالى: لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَن ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنصَرُونَ بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنظَرُونَ [سورة الأنبياء:40].
فقوله - تبارك وتعالى -: ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ المجيء بثم هنا التي تدل على الترتيب: الله قال: وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فيشهد عليهم وعلى إجابتهم وأعمالهم، ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ كأنه يدل - والله تعالى أعلم - على أن ما يُمْنَونَ به من المنع من الاعتذار يضاف إليه ما هو أشد عليهم من ذلك، وهو أن هؤلاء - نسأل الله العافية - يحصل لهم القنوط، وأنهم بعد أن يشهد عليهم الأنبياء بأعمالهم، يحصل لهم فوق ذلك المنع من الاعتذار، الأمر الذي يؤذن بقنوطهم ويأسهم من الخلاص والانفكاك من عذاب الله - تبارك وتعالى -، وقوله - تبارك وتعالى - هنا: وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ، لا يستعتبون؛ لأن العتاب حينما يقع إنما يكون - غالباً أو عادةً - لأجل العود إلى ما يرضي المعاتب، فهو يعاتب من قصر أو أخطأ من أجل أن يرجع إلى ما يرضيه فيرتفع عنه العتاب، أما إذا كان هذا العتاب متوجهاً على العزم وعلى السخط فإنه لا يجدي شيئاً، إنما يكون للتبكيت فيكون ذلك زيادة في الحسرة، فحينما تقول لمن لا تطلب منه الاعتذار لترضى عنه وإنما أنت عازم على عدم الغفران والمسامحة تقول له: ما الذي حملك على كذا؟ وما الذي حملك على كذا؟ فيكون فيه زيادة في التبكيت، وهذا لا شك أنه من زيادة العناء والشقاء على هذا المبتلى، والمقصود لا يستعتبون: أي لا يطلب منهم أن يسترضوا ربهم - تبارك وتعالى -، فلا يذكرون الأعذار التي يستجلبون بها رضاه، فهم مهما قالوا ومهما تكلموا فإن الله لا يرضى عنهم، فهم لا يُكلفون أن يرضوا ربهم، لا يستعتبون، وأصل هذه الكلمة من العتب وهو الموجِدة، وإذا رجع إلى ما يرضي المُعاتب، رجع إلى مسرته ومرضاته، يقال: أعتبه، ولهذا تقول: عاتبته فأعتبني، يعني صدر منه ما يرضي من عاتبه، والمستعتِب هو طالب العتبى، الذي يطلب الاعتذار، يقال له: مستعتِب، والسين والتاء كما هو معلوم للطلب، وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ، وأشار إلى الحديث: أنه يخرج عنق من النار ويقول: وكلت بكذا وكذا، هنا يشير إلى حديث أبي هريرة عند الترمذي[1]، وفيه: أنه يخرج عنق من النار له عينان تبصران ولسان ينطق فيقول: إني وكلت بثلاثة وذكر من دعا مع الله إلهاً آخر، والمشرك، وذكر أيضاً: المصورين، وكل جبار عنيد.
- سنن الترمذي: باب ما جاء في صفة النار: (2574) عن أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: تخرج عنق من النار يوم القيامة لها عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق يقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلها آخر، وبالمصورين. قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح. وصححه الألباني. انظر السلسلة الصحيحة (2/25) رقم (512).