السبت 12 / ذو القعدة / 1446 - 10 / مايو 2025
إِنَّ ٱللَّهَ يَأْمُرُ بِٱلْعَدْلِ وَٱلْإِحْسَٰنِ وَإِيتَآئِ ذِى ٱلْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ ٱلْفَحْشَآءِ وَٱلْمُنكَرِ وَٱلْبَغْىِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ [سورة النحل:90]، يخبر تعالى أنه يأمر عباده بالعدل، وهو القسط والموازنة، ويندب إلى الإحسان، كقوله تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [سورة النحل:126]، وقوله: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [سورة الشورى:40]، وقال: وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ [سورة المائدة:45] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على شرعية العدل والندب إلى الفضل.

وقوله: وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى أي: يأمر بصلة الأرحام، كما قال: وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً [سورة الإسراء:26]، وقوله: وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ فالفواحش: المحرمات، والمنكرات: ما ظهر منها من فاعلها؛ ولهذا قال في الموضع الآخر: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ [سورة الأعراف:33] وأما البغي فهو العدوان على الناس، وقد جاء في الحديث: ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم[1]. وقوله: يَعِظُكُمْ: أي يأمركم بما يأمركم به من الخير وينهاكم عما ينهاكم عنه من الشر، لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، وقال الشعبي عن شُتَير بن شَكَل: سمعت ابن مسعود يقول: إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإحْسَانِ الآية، رواه ابن جرير.

تكلم العلماء على هذه الآية: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وتقدم الأثر عن ابن مسعود أنها أجمع آية في كتاب الله - تبارك وتعالى -، وفيها الأمر بالأخلاق الجامعة، والنهي عن الرذائل، وهي التي أمر عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - أن تقرأ على المنابر في خطبة الجمعة، في آخر الخطبة، فقد كان قبل ذلك يشتمون علياً في الشام، فلما جاء عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - نهى عن هذا، وأمر بأن تقرأ هذه الآية: إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء؛ والعدل: هو الإنصاف وأن يعطى كل ذي حق حقه وما يستحقه، والإحسان: هو الفضل، يعني الزيادة، فالعدل هو الواجب، والإحسان هو ما ندب الله إليه من العفو أو الإفضال على من أساء.

وفسر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - الفحشاء بالمحرمات، والمنكر بما ظهر منها من فاعلها، ولو قيل بأن الفحشاء هي كل ذنب عظيم، فإن هذه اللفظة تدل على هذا المعنى، فالشيء العظيم يقال له: فاحش، فيقال: هذا مال فاحش، ويقال: كلام فاحش، فهو الذنب العظيم، والمنكر: فهذا من عطف العام على الخاص، المنكر أعم، فقد يكون كل ما أنكره الشرع أو عرفت العقول نكارته؛ لأن المنكر عند أهل السنة والجماعة، والقبح يعرف بالشرع، وكذلك أيضاً العقول لها مدخل في هذا، خلافاً للمتكلمين من الأشعرية ونحوهم، الذين يقولون بأن التحسين والتقبيح شرعيان، وأنه لا مدخل للعقل في ذلك، يقولون: العقل لا يدرك حسن الأشياء ولا قبح الأشياء، ويقولون: لو أن الشرع أمر بالزنا والكذب والفواحش لكانت حسنة، وهذا من أغرب الأشياء، والشارع لا يمكن أن يأمر بهذا، وأهل السنة يقولون بأن المنكر ما دل الشرع على نكارته وقبحه، وما أنكرته العقول؛ لأن من الأشياء ما له حسن أو قبح ذاتي، يعرفه أصحاب العقول، فيقال مثلاً في الظلم والكذب ونحو هذا: هذه تدرك العقول قبحها، ولذلك حتى الكفار يعرفون قبح هذه الأشياء، ولو لم يرد الشرع بذلك، والشرع لا يمكن أن يأمر بمثل هذه الأشياء، فالأشياء التي نهى عنها الشرع هي قبيحة، ولكن قد تدرك العقول قبحها وقد يخفى عليها ذلك، فالشاهد أن الله قال: وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وهي الذنوب العظام، وكذلك أيضاً ينهى عن كل منكر، وهذا يشمل الفواحش وغير الفواحش، فيكون هذا من قبيل عطف العام على الخاص، وهو كثير في القرآن.

وقوله - تبارك وتعالى - هنا: يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، يعظكم: الغالب في كلام أهل العلم أنهم يعبرون عن معنى الوعظ فيقولون: هو الأمر أو النهي المقرون بالترغيب والترهيب، ونجد في كثير من المواضع أن الله يأمر وينهى دون أن يكون معه ترغيب ولا ترهيب، ويسميه وعظاً، والجواب عن ذلك بأن يقال: إن القرآن يُنظر إليه باعتبار أنه وحدة متكاملة، قد ذكر الله فيه الترغيب والترهيب والتخويف، وإذا أمر الله فإنه قد أخبر أن أمره يجب أن يمتثل، وإلا فإنه يتوعد ويعاقب ويعذب من عصاه.

وقد ورد في نزولها حديث حسن رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عباس - ا - قال: بينما رسول الله ﷺ بفناء بيته جالس إذ مر به عثمان بن مظعون، فكشر إلى رسول الله، فقال له رسول الله ﷺ: ألا تجلس؟ فقال: بلى، قال: فجلس رسول الله ﷺ مستقبله، فبينما هو يحدثه إذ شخص رسول الله ﷺ ببصره إلى السماء، فنظر ساعة إلى السماء، فأخذ يضع بصره حتى وضعه على يمينه في الأرض، فتحرف رسول الله ﷺ عن جليسه عثمان إلى حيث وضع بصره، فأخذ ينغض رأسه كأنه يستفقه ما يقال له، وابن مظعون ينظر، فلما قضى حاجته واستفقه ما يقال له، شخص بصر رسول الله ﷺ إلى السماء كما شخص أول مرة، فأتبعه بصره حتى توارى إلى السماء، فأقبل إلى عثمان بجلسته الأولى، فقال: يا محمد فيما كنت أجالسك ما رأيتك تفعل كفعلك الغداة!، فقال: وما رأيتني فعلت؟ قال: رأيتك شخصَ بصرُك إلى السماء، ثم وضعته حيث وضعته على يمينك، فتحرفت إليه وتركتني، فأخذت تنغض رأسك كأنك تستفقه شيئاً يقال لك، قال: وفطنت لذلك؟ فقال عثمان: نعم، قال رسول الله ﷺ: أتاني رسول الله آنفاً وأنت جالس قال: رسول الله؟ قال: نعم، قال: فما قال لك؟ قال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإحْسَانِ الآية، قال عثمان: فذلك حين استقر الإيمان في قلبي وأحببت محمداً ﷺ[2]، إسناد جيد متصل حسن قد بيّن فيه السماع المتصل.

هذا الحديث في إسناده شهر بن حوشب، وهو مضعف، وفيه آخر أيضاً يقال له: عبد الحميد بن بهرام.

  1. رواه الترمذي، كتاب صفة القيامة والرقائق والورع عن رسول الله ﷺ، برقم (2511)، من حديث أبي بكرة ، وقال: هذا حديث حسن صحيح، وابن ماجه، كتاب الزهد، باب البغي، برقم (4211)، وأحمد في المسند برقم (20398)، وقال محققوه: إسناده صحيح، وصححه ابن حبان في صحيحه برقم (455)، والألباني في السلسلة الصحيحة برقم (918)، وفي تحقيق مشكاة المصابيح برقم (4932).
  2. رواه أحمد في المسند (5/87)، برقم (2919)، وقال محققوه: إسناده ضعيف، والطبراني في المعجم الكبير (9/39)، كلاهما من طريق عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن حوشب، كلاهما فيهما كلام، بعضهم وثق عبد الحميد بن بهرام وبعضهم ضعفه، وبعض العلماء قبل روايته عن شهر بن حوشب؛ لأنه ممن لازمه وحفظ حديثه، والذين ردوا حديثه لأنه صدوق يروي عن ضعيف وهو شهر بن حوشب، انظر: سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي (7/334)، وضعف العلماء شهر بن حوشب وللمزيد من الفائدة وبيان كلام العلماء عليه ينظر: كتاب سير أعلام النبلاء (4/374).