وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلاَ تَكُونُواْ كَالّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوّةٍ أَنكَاثاً تَتّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَأُمّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمّةٍ إِنّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيّنَنّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ [سورة النحل:91-92].
هذا مما يأمر الله تعالى به، وهو الوفاء بالعهود والمواثيق والمحافظة على الأيمان المؤكدة، ولهذا قال: وَلاَ تَنقُضُواْ الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ولا تعارض بين هذا وبين قوله: وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ [سورة البقرة:224] الآية، وبين قوله تعالى: ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ [سورة المائدة:89] أي: لا تتركوها بلا كفارة، وبين قوله فيما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها[1] وفي رواية: وكفرت عن يميني[2] لا تعارض بين هذا كله ولا بين الآية المذكورة ههنا، وهي قوله: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا؛ لأن هذه الأيمان المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق لا الأيمان التي هي واردة على حثٍّ أو منع؛ ولهذا قال مجاهد في قوله: وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَايعني الحِلْف، حِلْفَ الجاهلية، ويؤيده ما رواه الإمام أحمد عن جبير بن مطعم قال: قال رسول الله ﷺ: لا حِلْف في الإسلام، وأيما حلْف كان في الجاهلية فإنه لا يزيده الإسلام إلا شدة[3] وكذا رواه مسلم، ومعناه: أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلْف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه، فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه.
وأما ما ورد في الصحيحين عن أنس أنه قال: حالف رسول الله ﷺ بين المهاجرين والأنصار في دورنا[4]، فمعناه أنه آخى بينهم فكانوا يتوارثون به حتى نسخ الله ذلك، والله أعلم.
حمل جماعة من أهل العلم قوله تبارك وتعالى: بِعَهْدِ اللّهِ على عموم العهود، العهد مع الله ، والعهد مع المخلوقين، فإذا عاهد الإنسان ربه فيجب عليه أن يفي وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقنَّ [سورة التوبة:75]، فالشاهد: أن الله - تبارك وتعالى - لمّا أخلفوا هذا قال: فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ [سورة التوبة:77]، وهكذا النذر هو عهد مع الله يجب الوفاء به، والعهود مع الناس داخلة في هذا وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا، والأيمان جمع يمين وهي الحَلِف، وعرفنا لماذا قيل لها: يمين، وأن الأصل أنه كان من عادتهم أن الواحد منهم إذا حلف أخذ بيمين صاحبه توكيداً للقول بالفعل، ثم نُسي ذلك، فصارت تطلق اليمين على كل حَلِف، وقوله: وَلاَ تَنقُضُواْ الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا يقول: لا تعارض بين هذا وبين قوله: وَلاَ تَجْعَلُواْ اللّهَ عُرْضَةً لِّأَيْمَانِكُمْ [سورة البقرة:224]؛ لأن المعنى في هذه الآية: لا تتركوا فعل الخير والصلة والبر والإحسان بحجة أنكم حلفتم أن لا تفعلوه، فلا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم أن تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس، فإذا رأى الإنسان أنه حلف على شيء ثم وجد غيره خيراً منه فإنه يكفر عن يمينه كما ثبت عن النبي ﷺ، قال: وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا فهذه الأدلة التي أوردها الحافظ ابن كثير - رحمه الله - تدل على أن الإنسان ينقض اليمين ويكفر عنها، ثم بيّن أن المراد بقوله: وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ أي: التي في العهود، وبعض أهل العلم يقول: المقصود به الأيمان المؤكدة، وهذا بعيد، ومنهم من يقول: وَلاَ تَنقُضُواْ الأيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا المقصود به ليس الذي في العهود وإنما الأيمان التي ينعقد عليها القلب، لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ [سورة المائدة:89]، فهذه اليمين لا يجوز للإنسان أن ينقضها، فإذا رأى أن غيرها خيرٌ منها فإنه يكفر عن يمينه ويأتي الذي هو خير، أما ما يجري على أَلسِنة الناس ولا ينعقد عليه القلب فإن هذا ليس له حكم اليمين، فلا بأس بأن الإنسان يفعل خلاف مقتضاه، والمقصود بـ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا أي: لا تنقضوها غير مبالين بها، لأن لها حرمة يجب على الإنسان أن يقف عندها ويمتنع مما حلف عليه أن يتركه، أو يفعل ما حلف أنه يفعله، أو يكفر عن يمينه، ولعل هذا المعنى أقرب، والله تعالى أعلم.
وقوله: وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً منهم من فسره بالشهيد - أي شهيداً -، ومنهم من فسره بالرقيب، ومنهم من فسره بالحافظ، يرقبكم ويحفظ عليكم أعمالكم وأيمانكم، ويشهد عليكم بذلك، ويراعي أحوالكم من الوفاء والنقض، فهذه المعاني التي ذكرها السلف متقاربة، والله تعالى أعلم.
وقوله: إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها.
- رواه البخاري، كتاب كفارات الأيمان، باب الكفارة قبل الحنث وبعده، برقم (6342)، ومسلم، كتاب الأيمان، باب نذر من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه، برقم (1649)، من حديث أبي قلابة ، واللفظ له.
- رواه البخاري، كتاب كفارات الأيمان، باب الاستثناء في الأيمان، برقم (6340)، ومسلم، كتاب الأيمان، باب نذر من حلف يمينا فرأى غيرها خيرا منها أن يأتي الذي هو خير ويكفر عن يمينه، برقم (1649)، من حديث أبي موسى الأشعري .
- رواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب مؤاخاة النبي ﷺ بين أصحابه ، برقم (2530).
- روى الإمام البخاري - رحمه الله - في مؤاخاة النبي ﷺ بين المهاجرين والأنصار من حديث إبراهيم بن سعد عن أبيه عن جده قال: "لما قدموا المدينة آخى رسول الله ﷺ بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع قال لعبد الرحمن: إني أكثر الأنصار مالا فأقسم مالي نصفين، ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فسمّها لي أطلقْها فإذا انقضت عدتها فتزوجْها، قال: بارك الله لك في أهلك ومالك، أين سوقكم؟ فدلوه على سوق بني قينقاع فما انقلب إلا ومعه فضل من أقِطٍ وسمن، ثم تابع الغُدو، ثم جاء يوما وبه أثر صفرة، فقال النبي ﷺ: مَهْيَم؟، قال: تزوجت، قال: كم سقت إليها؟، قال: نواة من ذهب، أو وزن نواة من ذهب"، كتاب فضائل الصحابة، باب إخاء النبي ﷺ بين المهاجرين والأنصار، برقم (3569).