الإثنين 14 / ذو القعدة / 1446 - 12 / مايو 2025
فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ ٱلْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَٰهُ وَمَن مَّعَهُۥ جَمِيعًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزّهُم مّنَ الأرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مّعَهُ جَمِيعاً [سورة الإسراء:103] الآيات.

وقوله:فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ أي: يخليهم منها ويزيلهم عنها، فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مّعَهُ جَمِيعاً ۝ وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ [سورة الإسراء:103-104] وفي هذا بشارة لمحمد ﷺ بفتح مكة، مع أن السورة مكية نزلت قبل الهجرة، وكذلك وقع، فإن أهل مكة هموا بإخراج الرسول منها، كما قال تعالى: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا[سورة الإسراء:76] الآيتين؛ ولهذا أورث الله رسوله ﷺ مكة فدخلها عنوة على أشهر القولين، وقهر أهلها ثم أطلقهم حلماً وكرماً، كما أورث الله القوم الذين كانوا يستضعفون من بني إسرائيل مشارق الأرض ومغاربها، وأورثهم بلاد فرعون وأموالهم وزروعهم وثمارهم وكنوزهم، كما قال: كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ [سورة الشعراء:59]، وقال ههنا: وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً أي: جميعكم أنتم وعدوكم، قال ابن عباس -ا- ومجاهد وقتادة والضحاك:لَفِيفاً أي: جميعاً.

 فقوله - تبارك وتعالى -: فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ قال: "أي يخليهم منها ويزيلهم عنها"، فهو بمعنى الإخراج، هذا هو المشهور من أقوال المفسرين، كقوله -تبارك وتعالى-: وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ولكن يرِد على هذا التفسير أن فرعون كان يأبى خروج الإسرائيليين من مصر، ولهذا كان موسى ﷺ يطالبه بأن يرسله معهم؛ لأنه كان يستعبدهم ويمتهنهم ويحملهم الأعمال الشاقة، كما قال الله - تبارك وتعالى - عنه: يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ [سورة الأعراف:141]، يقتّلون أبناءهم لإضعافهم، ويستحيون نساءهم: يُبقون البنت حية من أجل أن تبقى للخدمة، يستذلونها ويستعبدونها، فموسى ﷺ كان يقوله له:فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ [سورة طه:47]، فكان فرعون يمتنع من هذا ويأبى، فما وجه قوله - تبارك وتعالى - هنا: فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ؟ هل كان يريد أن يخرجهم منها؟ هم خرجوا كما هو معلوم خفية دون علم فرعون، فلما شعر بهم تبعهم، فمن أهل العلم من نظر إلى هذا المعنى فقال: إن قوله: فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ: أي يخليهم منها -من الأرض- بالقتل؛ لأنه بدأ يحرض عليهم إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ ۝ وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ ۝ وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ [سورة الشعراء:54-56]، فكأنه كان يمهد لها وقال: ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ [سورة غافر:26]، وكذا فعل مع السحرة لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ [سورة الأعراف:124]، وتوعدهم بالصلب، فمن أهل العلم من فسره بالقتل من أجل هذا الملحظ، - والله تعالى أعلم -. ولو أنه فسر بالاستفزاز كما فسر بالإخراج، استفزاز موسى ﷺ بالتضييق عليه فيضطر إلى الخروج، أو بإخراجه فعلاً، فهم كانوا يضيقون عليهم غاية التضييق كما هو معلوم، أما أن يخرجوهم فعلاً من الأرض فكان هذا مطلوباً لموسى ﷺ، إلا أن يقول قائل: إن الذي طلبه موسى ﷺ هو أن يرسل معه بني إسرائيل، يعني بترك استعبادهم وتركهم يتبعون موسى ﷺ ويعبدون الله ويتبعون شرائعه بدلاً من هذا الاستعباد والاستذلال، مع ادعائه للربوبيةأَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى[سورة النازعات:24]، فطلب منه أن يترك هؤلاء وشأنهم، قد يقول قائل: إن هذا الذي قصده موسى ﷺ لا الإخراج من أرض مصر؛ لأنهم قد استوطنوها منذ أزمان طويلة من بعدما جاءوا إلى مصر حينما كان يوسف ﷺ، وجاء إخوته كما هو معلوم، والله تعالى أعلم.

وقول الله - تبارك وتعالى -: وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ [سورة الإسراء:104] عندما خرج بنو إسرائيل من مصر إلى الشام وحصل لهم ما حصل من التيه، المؤرخون يقولون: إنهم ما رجعوا بعد الإغراق، وهذا الذي يدل عليه ظاهر القرآن، أنهم توجهوا إلى الشام وما رجعوا إلى مصر بعد الإغراق واستوطنوها، لكن الله قال في موضع آخر: كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ[سورة الشعراء:59]، وفي الموضع الآخر قَوْمًا آخَرِينَ [سورة الدخان:28]، وهم بنو إسرائيل، والمقصود بالأرض أرض مصر بعدما ذكر إهلاك فرعون، وفي الآية الأخرى قال: وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا [سورة الأعراف:137]، فالأرض: من أهل العلم من يقول: مصر والشام، ومنهم من يقول: الشام، ولا يتعارض مع كونهم ذهبوا إلى الشام أن الله أورثهم أرض مصر بحيث صارت تابعة لهم، ومعلوم أن البلاد المصرية كان الناس قبل الإسلام فيها يدينون بالنصرانية، ويوجد طائفة من اليهود، فالقبط هم الذين كانوا يحكمون مصر، وبنو إسرائيل كما هو معلوم هم اليهود والنصارى، إلا أنهم انقسموا بعد بعث عيسى ﷺ فَآَمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ [سورة الصف:14]، فالذين آمنوا هم الذين عرفوا بعد ذلك بالنصارى، الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى [سورة المائدة:14]، وإلا فكل هؤلاء من بني إسرائيل، الذين كانوا يحكمون مصر كانوا من الإسرائيليين، بمعنى أنهم كانوا نصارى، حتى جاء عمرو بن العاص وفتحها، والمقوقس كان نصرانياً، فالشاهد أنها بقيت تابعة لهم لكن لا يعني هذا أن موسى ﷺ ومن معه رجعوا وبقوا في أرض مصر، وإنما توجهوا إلى الشام، ومعروف في التاريخ أن مفتاح البلاد المصرية هو الشام، ولذلك الذين يحكمون مصر عبر التاريخ أول ما يحرصون عليه هو وضع اليد على الشام، من أجل أن يؤمنوا البلاد المصرية من الغزو أو الغزاة، فإذا وقعت الشام في أيديهم فهذا هو المفتاح، وُجدت الوحدة بين الشام ومصر حتى في عصور متأخرة، وقبل ذلك وجد التوسع المصري، واحتلال بلاد الشام من قبل أمراء من المصريين تابعين للبلاد، أو للدولة العثمانية، ووقع ذلك لمحمد علي باشا، وكان يطالب الدولة العثمانية دائماً باحتلال مصر، وما نهضت همته لمحاربة الوهابيين كما يسمونهم وإرسال ابنه طوسون في بداية الأمر، ثم بعد ذلك فشل طوسون، وانهزموا، ثم أرسل إبراهيم بجيش من البحر وجيش من البر، ولم يذهب إلا بعدما أعطته الدولة العثمانية عهداً، وعقدت معه عقداً أن تعطيه الشام، فلما وافقوا له بهذا سيّر الجيش، وكانت الدولة العثمانية أضعف من أن تغزو هذه البلاد، كانت في حالٍ من الترهل والضعف، فالشاهد أن قوله - تبارك وتعالى -: اسْكُنُواْ الأَرْضَ يحتمل أن تكون أرض الشام، ويحتمل أن يكون جنس الأرض، يتبوءون منها حيث شاءوا ممكنين، لا يخافون من عدو يستذلهم، ويقتل أبناءهم، ويصرفهم عن طاعة الله.

يقول الله : فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا، يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "أي أنتم وعدوكم جميعاً"،لَفِيفًا تقول: جاء القوم بلفهم ولفيفهم، يعني: أن الله يحشرهم في حال يجمعهم جميعاً، يختلط بعضهم ببعض، المؤمن بالكافر، يُحشر الإسرائيليون والفراعنة وغير هؤلاء من الأمم التي أهلكها الله ، وممن آمن بالرسل وأتباع الرسل، يحشر الجميع مختلطين مؤمنهم وكافرهم، فاللفيف ما اجتمع من أخلاط الناس، وقبائلهم المختلفة، فهم يحشرون مختلطين، لا يتميزون، ولا يكون الحشر لبعضهم دون بعض، لا ينتسب أحد منهم ويأوي إلى قبيلته، أو طائفته، أو أهله أو نحو ذلك أو إلى أهل بلده، فكل إنسان مرتهن بعمله، مطلبه فكاك رقبته، والله المستعان، وإلا فإن المرء يفر من أبيه وأقرب الناس إليه، فلا ينحاز أحد منهم إلى أحد.