وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً[سورة الإسراء:12].
يمتن تعالى على خلقه بآياته العظام، فمنها مخالفته بين الليل والنهار ليسكنوا في الليل، وينتشروا في النهار للمعايش والصنائع، والأعمال والأسفار، وليعلموا عدد الأيام والجمع والشهور والأعوام، ويعرفوا مضيّ الآجال المضروبة للديون والعبادات والمعاملات والإجارات وغير ذلك؛ ولهذا قال: لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رّبّكُمْ أي: في معايشكم وأسفاركم ونحو ذلك، وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ فإنه لو كان الزمان كله نسقاً واحداً وأسلوباً متساوياً لما عرف شيء من ذلك، كما قال تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [سورة القصص:71-73]، وقال تعالى:تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُنِيراً وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً [سورة الفرقان:62-62]، وقال تعالى: وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ [سورة المؤمنون:80]، وقال: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ [سورة الزمر:5]، وقال تعالى: فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ[سورة الأنعام:96]، وقال تعالى: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ[سورة يس:37-38]، ثم إنه تعالى جعل لليل آية، أي علامة يعرف بها، وهي الظلام وظهور القمر فيه، وللنهار علامة وهي النور وطلوع الشمس النيرة فيه، وفاوت بين نور القمر وضياء الشمس؛ ليعرف هذا من هذا، كما قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّإلى قوله:لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ [سورة يونس:5-6] وقال تعالى:يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ[سورة البقرة:189] الآية.
قال ابن جريج عن عبد الله بن كثير في قوله: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً، قال: ظلمة الليلة وسدف النهار، وقال ابن جريج عن مجاهد: الشمس آية النهار والقمر آية الليل، فمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ قال: السواد الذي في القمر، وكذلك خلقه الله تعالى، وقال ابن أبي نجيح عن ابن عباس - ا - وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ قال: ليلاً ونهاراً، كذلك خلقهما الله .
قوله: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ، يمكن أن يقال: إنه قدم الليل باعتبار أنه الأصل، ثم قال: فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً، فمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِيعني: قال الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "ظلمة الليل وسدف النهار"، وسدف النهار يعني ما يكون فيه من الاختلاط في أوله ما بين الفجر إلى طلوع الشمس، واختلاط النور بالظلام، وقال ابن جريج عن مجاهد: الشمس آية النهار، والقمر آية الليل، بمعنى جعل الليل مظلماً والنهار مضيئاً، هذا معناه، قال: فمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ قال: السواد الذي في القمر، وكذلك خلقه الله تعالى، وجاء هذا عن جماعة من السلف ، وهو مروي عن علي - رضي الله عن الجميع -، بعض أهل العلم يقول: كان القمر مثل الشمس يضيء، ثم بعد ذلك مُحي فصار بالصورة التي نراها، والعلماء يقولون: إن الضوء الذي في القمر أو النور الذي في القمر ليس من ذاته، وإنما هو انعكاس لما يحصل له من ضوء الشمس، هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُورًا، فبعضهم يقول: هذا هو المحو: أن الله غيره بعدما كان كالشمس في الإضاءة، وبعضهم يقول: الله خلقه هكذا ابتداءً، ولم يكن كالشمس، والمقصود بقوله: فمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِأي: جعلناه لا يضيء كالشمس، فخلق الشمس بهذا الضياء لينكشف به الظلام، وخلق القمر بهذه الصفة، وأن هذا هو المحو،فمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ: يعني ابتداءً منذ أن خلقناها، والآية تحتمل هذا وهذا، فمَحَوْنَا هل هذا المحو كان بعدما خلقه على صفة أخرى ثم بعد ذلك تغير؟ أو أنه خلقه هكذا بهذا المحو؟ ليس عندنا دليل يحدد شيئاً من ذلك، - والله تعالى أعلم - كيف كان، لكن هنا يقول: فمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ قال: "السواد الذي في القمر، وكذلك خلقه الله تعالى"، يعني لم يكن مضيئاً كالشمس ثم بعد ذلك تغير، وإنما هكذا خلقه ممحوًّا، وقال هنا عن ابن عباس: وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ قال: "ليلاً ونهاراً، وكذلك خلقهما الله "، يعني نفس الليل ونفس النهار، يعني هما آيتان، قال: وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً، بعضهم يقول: هذا من قولهم: أبصر النهار يعني إذا صار في حالة يُبصَر بها، فيكون من وصف الناس، يبصرون بها، آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً: يعني يبصر بها الناس، أو أن المعنى وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً أي: مبصرة للناس، آية واضحة، فيكون ذلك من صفته، وقوله -تبارك وتعالى-: لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَأي: بتعاقب الليل والنهار، فتنقضي بذلك الأيام والشهور والسنوات، والفرق بين العدد والحساب: عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ، العدد: يقولون: هو إحصاء ما له كمية من غير أن يتحصل منه شيء، الآن لو جلس إنسان يعد سواري المسجد، واحد، اثنان، إلى آخرها، هذا يسمى عدد، وأما الحساب: فهو إحصاء ما له كمية مما يتحصل منه شيء، فالساعة ستون دقيقة، فإذا جلس يحصي أجزاء الساعة، حتى يتحصل منها ساعة يقولون: هذا هو الحساب، اليوم أربع وعشرون ساعة، فإذا جلس يعد ساعات النهار حتى يتحصل منها اليوم هذا يقولون له: حساب، الأسبوع سبعة أيام، فإذا جلس يعد السبت والأحد والاثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس والجمعة، فهذا يقال له: حساب، والشهر يكون تسعاً وعشرين أو ثلاثين، فإذا جلس يعد هذا فيقال له: حساب، وهكذا العام حينما يعد شهور العام ليتحصل منها سنة فيقول مثلاً: المحرم وصفر إلى آخره حتى يصل إلى ذي الحجة ويقول: هذا عام، هذا هو الحساب، إحصاء ما له كمية؛ ليتحصل منه شيء، تَعدُّ اثني عشر شهراً على أساس أن تخرج بسنة، تعد أربعاً وعشرين ساعة من أن أجل أن تخرج باليوم، وهكذا، والله أعلم.