الأحد 06 / ذو القعدة / 1446 - 04 / مايو 2025
وَمَنْ أَرَادَ ٱلْءَاخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُو۟لَٰٓئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

 مّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نّرِيدُ ثُمّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مّدْحُوراً ۝ وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وَسَعَىَ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مّشْكُوراً [سورة الإسراء:18-19].

يخبر تعالى أنه ما كل من طلب الدنيا وما فيها من النعيم يحصل له، بل إنما يحصل لمن أراد الله وما يشاء، وهذه مقيدة لإطلاق ما سواها من الآيات، فإنه قال: عَجّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نّرِيدُ ثُمّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنّمَ  أي: في الدار الآخرةيَصْلاهَا أي: يدخلها حتى تغمره من جميع جوانبه،  مَذْمُوماًأي: في حال كونه مذموماً على سوء تصرفه وصنيعه، إذ اختار الفاني على الباقي، مّدْحُوراً : مبعداً مقصياً ذليلاً مهاناً.

وقوله: وَمَنْ أَرَادَ الآخرة أي: أراد الدار الآخرة وما فيها من النعيم والسرور، وَسَعَىَ لَهَا سَعْيَهَا أي: طلب ذلك من طريقه وهو متابعة الرسول ﷺ ،وَهُوَ مُؤْمِنٌ  أي: قلبه مؤمن، أي مصدق بالثواب والجزاء فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مّشْكُوراً .

قوله - تبارك وتعالى -:  مّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نّرِيدُ، هذه الآية يقول الحافظ- رحمه الله-: ".. أنه ما كل من طلب الدنيا وما فيها من النعيم يحصل له"؛ لأن هذه الآية قيدها الله بقيدين، قيدها بالمشيئة فيما يتصل بالعطاء، وقيدها أيضاً بمن أراد إعطاءه لِمَن نّرِيدُ، يعني هي مقيدة في العطاء، ومقيدة في المعطَى،مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ، وهذه الآية مقيدة للآيات الأخرى كآية هود، فالله يقول فيها:  مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ۝ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [سورة هود:15-16]، وقوله:  مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ [سورة الشورى:20]، وفي قوله:وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا  [سورة آل عمران:145]، فهي غير مقيدة، والمعلوم أن المطلق يحمل على المقيد، فالآيات الثلاث تقيدها هذه الآية، ما كل من أراد الدنيا أعطي حسب إرادته، وإنما يكون العطاء مقيداً بما شاءه الله ، وهكذا هؤلاء المعطَوْن: يعطي الله من يشاء ويمنع من يشاء، فهذه الآية فيها سؤال معروف عند أهل العلم وهو أن الله قال:  ثُمّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مّدْحُوراً ، وفي آية هود: مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ ۝ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ، فهذا لا يكون إلا للكفار، وفي قوله:  وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ، ففي هذه الآيات الثلاث وعد بالنار أو أخبر الله أنه لا حظ له في الآخرة، فالحاصل أن السؤال الذي يرد في هذا هو هل كل من كانت له إرادة للدنيا فإنه متوعد بالنار، أو الخلود بالنار مع أن الإنسان لا يخلو من إرادة للدنيا؟ والله قال عن أصحاب النبي ﷺ في واقعة معينة:  مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ[سورة آل عمران:152] فالشاهد أن مثل هذا يستشكل من هذه الحيثية؛ ولهذا العلماء تكلموا على المراد في هذه الآيات، فبعض أهل العلم قال: هذه الآية في أهل الرياء، هذا قال به بعض الصحابة كمعاوية  ، وأبي هريرة راوي حديث: "أول من تسعر بهم النار يوم القيامة ثلاثة..."، وقال بعده: صدق رسول الله ، وقرأ آية هود: مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ، فحملها على أهل الرياء، وحينما تحمل الآية على أهل الرياء، يحتاج فيه إلى قيد، فإما أن يقال بأن ذلك فيمن كان مرائياً في أصل الإيمان، من أجل أن يكون متوعداً بالخلود بالنار، وإما أن يقال بأن جميع الأعمال التي يعملها إنما هي على سبيل الرياء، لكن من وقع له رياء في بعض الأعمال وأصل الإيمان صحيح فمثل هذا لا يكون خالداً في النار، ومن أهل العلم من حملها على أنها في الكفار، مع أن ظاهر الآية العموم  مَن كَانَ يُرِيدُ ؛ ولهذا يمكن أن يوجه هذا القول ويجمع بينه وبين قول آخر لعله الأوضح من هذه الأقوال، وهو أن يقال: من كانت الدنيا همه وغايته التي يسعى ويعمل من أجلها، وهي طلبته التي يقوم لها ويقعد، ليس له هم ولا مطلوب سوى الحياة الدنيا، فهذا متوعد بالنار، حتى الأعمال الصالحة التي قد يعملها، يعملها من أجل أمر دنيوي، فهو يزكي ماله من أجل أن ينمو ماله، ويصل الرحم من أجل أن ينسأ له في أثره مثلاً، ويصوم ليصح، ويحج للتجارة، ويجاهد للغنيمة، وهكذا، كل أعماله يبحث عن الفائدة من هذا العاجلة، فإذا رأى شيئاً عاجلاً فعله، فمن كانت الدنيا هي غايته التي يقوم من أجلها ويقعد فهو متوعد بالنار، وأهل الرياء يدخلون في هذا؛ لأنهم أشركوا بالله ، والذين كل أعمالهم رياء، أو دخل الرياء في أصل الإيمان، هم أيضاً كذلك؛ لأنهم أرادوا أمراً دنيوياً، أرادوا الحظوة في قلوب الناس، والثناء، وما أشبه هذا، وهذا جواب عن هذا الإشكال، فمن قال بأنها في الكفار، فمن كان بهذه المثابة في الوصفين اللذين ذكرت فهذا أصلاً إنما يكون للكفار، إما الكفار في الباطن كالمنافقين أو الكفار في الظاهر، والله المستعان، وإذا تأملت في الآية وجدت ما يدل على هذا فيها، فالتعبير بالكون الماضي مثلاً يدل على الثبوت،مَن كَانَ ، ثم ذكر فعل الإرادة بالمضارعيُرِيدُ يدل على التجدد، أن هذا ديدنه في كل عمل يتجدد له، يُرِيدُ هذه الإرادة متجددة له،  يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ ، ثم مما يدل على أنه لا يريد إلا الدنيا أنه قابله بإرادة الآخرة، وهذه المقابلة تشعر بالحصر، بمعنى أنه ليس مجرد وجود الإرادة في قلبه للدنيا يعني أنه متوعد بهذه العقوبة، فهذا لا يخلو منه أحد، وإنما المقصود أنه ليس له مطلوب إلا الدنيا، فقابله:وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ ، فهذه قرائن في الآية تدل على هذا المعنى - والله أعلم -.

وهي الدنيا، وقيل لها: عاجلة لسرعة تقضِّيها، سواء تقضِّي ما فيها من اللذات والشهوات، أو تقضِّي تصرم الأوقات، فهي كأحلام النائم والظل الزائل، سريعة الانقضاء، والمراد بالتعجل في قوله:  مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء المقصود في الدنيا؛ ولهذا قال:عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا فهو تعجيل عرفي، ليس المقصود أنه بمجرد ما تطلب نفسه هذا أنه يحصل له، قد يحصل له وقد لا يحصل، فإن حصل لا يعني أنه يحصل مباشرة، و"ثم" هذه تدل على الترتيب الرتبي، ثُمّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مّدْحُوراً.

المعنى الذي ذكره الحافظ - رحمه الله - في قوله: " وَهُوَ مُؤْمِنٌ أي: قلبه مؤمن، أي مصدق بالثواب والجزاء  فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مّشْكُوراً"، واضح، ففسر الإيمان بمجرد التصديق؛ لأنه ذكر العمل بعدها فقال: وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، العلماء أحياناً يتوسعون في العبارة، فيفسرونه بما يقرب منه وإلا فإن أقرب ما يفسر به في اللغة بمعنى الإقرار والتصديق الانقيادي، فيكون التصديق مقيداً، وليس مطلق التصديق، تصديق انقيادي.