نّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىَ إِذْ يَقُولُ الظّالِمُونَ إِن تَتّبِعُونَ إِلاّ رَجُلاً مّسْحُوراً انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمْثَالَ فَضَلّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً [سورة الإسراء:47-48].
يخبر تعالى نبيه ﷺ بما يتناجى به رؤساء قريش حين جاءوا يستمعون قراءته ﷺ سراً من قومهم بما قالوا من أنه رجل مسحور من السِّحْر على المشهور، أو من السَّحْر وهو الرئة، أي إن تتبعون - إن اتبعتم محمداً - إلا بشراً يأكل، وفيه نظر؛ لأنهم أرادوا ههنا أنه مسحور، له رئِيٌّ يأتيه.
بالكسر والفتح رَئِيٌّ ورِئِيٌّ.
قوله: نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا هذه الرواية - وهي سماع هؤلاء الثلاثة - التي أوردها المؤلف - رحمه الله - تفسيراً لهذه الآية نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ، لا تصح فهي من مراسيل الزهري، وهو من صغار التابعين، وقوله - تبارك وتعالى -: نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ يمكن أن تكون الباء للملابسة، أي يستمعون إليك متلبسين به، من الاستخفاف بك وبالقرآن، فيستمعون وهم بهذه المثابة، وهم متلبسون بهذه الصفة، استماع مستهزئ ومستخفٍّ، لا استماع معظم ومنتفع، وبعضهم يقول: إن الباء هذه يَسْتَمِعُونَ بِهِ زائدة، ويقصدون بذلك من ناحية الإعراب، لا من ناحية المعنى، وإن كان لا يحسن ولا يليق أن يعبر عن شيء مما في القرآن بالزيادة، ولذلك يسمي بعضهم مثل هذا: صلة، تأدباً في العبارة، والمعنى واحد، يقول: إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا، يقول: "من السِّحْر على المشهور"، وهذا هو الظاهر المتبادر، رجل مسحور، أي أنه قد ابتلي بالسحر، فصار يخلط في نظرهم، وما يصدر عنه إنما هو من جراء هذا السحر، ومعلوم أن المسحور لا يصدر عنه الأفعال المرضية، والتصرفات السوية، وكيف يأتي على يده هذا القرآن المعجز، فهذا السحر على هذا الحال أورثه أعظم الكمالات، يقول: "أو من السَّحْر وهو الرئة"، فكل من له سَحر فهو مخلوق، ومحمد ﷺ يأكل ويشرب ويتنفس، ويقال: انتفخ سحره، يعني رئته، تعبيراً عن الخوف، فمعنى ذلك أنكم تتبعون بشراً وهم في تصورهم أن النبي لا يكون بشراً، فقالوا: أَبَعَثَ اللّهُ بَشَرًا رَّسُولاً [سورة الإسراء:94] والآيات في هذا المعنى كثيرة، وهذا المعنى بعيد، وهو خلاف الظاهر المتبادر، فهذا يقال على سبيل التورية والتلبيس على السامع والإلغاز، والقرآن لا يكون بهذه المثابة، يعني قد تقول لسبب أو لآخر عن شخص: فلان مسحور لتعتذر له وأنت تقصد أن له سَحر، يعني رئة، يعني قد يتصرف تصرفا خاطئا، فتعتذر عنه، أو تعتذر له، يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: "وفيه نظر؛ لأنهم أرادوا ههنا أنه مسحور، له رَئِيٌّ"، أو رِئِيٌّ من الجن، المقصود: أن يكون له تابع من الجن، وهذا التابع من الجن لربما يبدي له بعض الأشياء مما لا يراها الناس فيراها هو، أو يُسمعه بعض الأشياء التي لا يسمعها الآخرون، أو يوقع في نفسه أشياء في أمور تحصل فيشعر بها، فيقول: فلان معه كذا، أو فلان مات، أو فلان الآن مسافر، أو فلان الآن مريض، أو نحو هذا، ويكون كما قال، لا يدري كيف جاءت، وقعت في نفسه هذه الأمور، وقد يجري ذلك على لسانه، إما في بعض قضايا العلم فيتكلم بأشياء كأنها عن ظهر قلب، كلام أهل العلم، وهو لم يقرأها، أو يكون هذا أحياناً يجري على لسانه في أمور تلبس على الناس وتضللهم بشبهات أكبر منه، وليس هو بهذا المستوى، هو أصلاً، تجري على لسانه، وقد يحصل له ذلك في باب التعبير، التفسير للرؤى أحياناً، فيجري على لسانه التعبير، وهو لا يعرف كيف فسرها، فيكون هذا بسبب القرين أو بسبب هذا الرَّئِيِّ من الجن، وكثير من الناس قد لا يشعر بهذا أصلاً، ولربما يحصل له إذا استرسل معه وتابعه وتفطن له واستجاب، يحصل له بسببه فتنة، أو يفتن غيره بذلك، لأنه يخبرهم عن أشياء، ففي باب الرقية مثلاً يقول: فلان مسحور وسَحَره فلان، والسحر في المكان الفلاني، والسحر مؤثر فيه في الشيء الفلاني، يوجد فيه كذا ويوجد فيه كذا، في جسده، وأشياء غريبة أشبه بالخيالات، ثم تتبدى الأمور وتنكشف على أن ما قاله صحيح أحياناً، وهو إما أنه يستعين بالشياطين مباشرة، أو أنه جري ذلك على لسانه ويكون له تابع من الجن، وهذه أمور موجودة وواقعة، وكما قيل في عمرو بن لحي الخزاعي، كان له رَئِيٌّ من الجن، فجاءه فقال له: اذهب إلى ساحل جدة، تجد أصناماً معدة، إلى آخر ما قال، فذهب هناك فاستخرجها من ساحل جدة، وكانت منطمرة مدفونة، من بعد الطوفان، فأخرجها وعبدتها العرب – وهي ود ويغوث وسواع-، وعادت الأصنام التي عبدها قوم نوح بأسمائها وأعيانها إلى العرب، هكذا قيل، فالله تعالى أعلم.