السبت 03 / ذو الحجة / 1446 - 31 / مايو 2025
وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلْأَرْضِ ۗ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ ٱلنَّبِيِّۦنَ عَلَىٰ بَعْضٍ ۖ وَءَاتَيْنَا دَاوُۥدَ زَبُورًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله:وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ: أي بمراتبهم في الطاعة والمعصية، وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وكما قال تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ [سورة البقرة: (253)]، وهذا لا ينافي ما ثبت في الصحيحين أن رسول الله ﷺ  قال: لا تفضلوا بين الأنبياء ؛ فإن المراد من ذاك هو التفضيل بمجرد التشهي والعصبية، لا بمقتضى الدليل، فإذا دل الدليل على شيء وجب اتباعه، ولا خلاف أن الرسل أفضل من بقية الأنبياء، وأن أولي العزم منهم أفضلهم، وهم الخمسة المذكورون نصاً في آيتين من القرآن، في سورة الأحزاب: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ [سورة الأحزاب: 7] وفي الشورى قوله: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ[سورة الشورى: 13] ولا خلاف أن محمداً ﷺ أفضلهم، ثم بعده إبراهيم، ثم موسى، ثم عيسى - عليهم السلام - على المشهور، وقد بسطناه بدلائله في غير هذا الموضع، والله الموفق.

وقوله تعالى: وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا تنبيه على فضله وشرفه.

روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي ﷺ قال:  خُفف على داود القرآن، فكان يأمر بدوابه فتسرج، فكان يقرؤه قبل أن يفرغ : يعني القرآن[1].

 فقوله - تبارك وتعالى -: رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ يقول: أعلم بمن يستحق منكم الهداية ومن لا يستحق، إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بأن يوفقكم لطاعته والإنابة إليه، يمكن أن يكون المعنى - والله تعالى أعلم - أعم من هذا، أي أعلم بمن يستحق الهداية ومن لا يستحق، وهو أيضاً أعلم بهم من جهة أعمالهم وصلاحهم، وجناياتهم، وطاعاتهم، إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ على هذه الأعمال والجنايات والمقارفات التي لا يرضاها، أو إن يشأ يرحمكم، ويغفر لكم ما بدر منكم من الزلل والنقص والتقصير في حقه - تبارك وتعالى -، فلا يخفى عليه من أحوالكم خافية، فأنتم تحت مشيئته وقدرته، لا تخرجون عن ذلك في قليل ولا كثير، فالمعنى - والله تعالى أعلم - لا يختص بالهداية والغواية، وإنما يشمل هذا وغيره، ويقول: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ، وهذا مما يُشعر بالمعنى الذي ذكرته آنفاً، فالله أعلم بأحوال الخلق من كل وجه، وقد فاضل بينهم، فاختار أهل الإيمان على سائر الناس، واختار من أهل الإيمان الأنبياءَ - عليهم الصلاة والسلام -، واختار من الأنبياء محمداً ﷺ، فهو أفضلهم وأعظمهم قدراً عند الله - تبارك وتعالى -، وهذا عن علم منه - تبارك وتعالى - بخلقه، يقول: وهذا لا ينافي ما ثبت في الصحيحين  لا تفضلوا بين الأنبياء ، فإن المراد من ذلك هو التفضيل بمجرد التشهي والعصبية، وهذا هو التوجيه المعتبر في مثل هذا الحديث، فإنه لما حلف رجل من اليهود قال: والذي فضل موسى، أو كلمة نحوها، لطمه رجل من المسلمين، وقال: تقول هذا ومحمد ﷺ بين أظهرنا؟!، فالرجل جاء إلى النبي ﷺ يشكو إليه، فنهى النبيﷺ عن التفضيل بين الأنبياء، وتوجيه النهي فيما إذا كان على سبيل العصبية، أو أن يكون التفضيل مشعراً بشيء من الانتقاص والحط من مرتبة أحد من أنبياء الله ، وهذا كما يقال أيضاً في توجيه القراءات الثابتة: إنه لا يجوز الترجيح بين القراءات والمفاضلة بينها بحيث يكون ذلك على وجه يشعر بانتقاص القراءة الأخرى، أما أن يكون ذلك على سبيل الاختيار فهذا لا إشكال فيه، كأن يقال: هذه القراءة مثلاً أوسع في المعنى، أو أنها أكثر ملاءمة للسياق، أو أدل على المقصود، أو نحو هذا من العبارات، كأن تقول مثلاً: قراءة مَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ  [سورة الفاتحة: 4] فيها من المعنى ما ليس في قراءة مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [سورة الفاتحة:4] لكن لا بأسلوب يشعر بالحط من القراءة الأخرى، الشاهد أنه هكذا التفضيل، وإلا فإن النبي ﷺ قال:  أنا سيد ولد آدم [2]، وجاء عنه أحاديث صحيحة في هذا المعنى، تدل على أنه أشرف الأنبياء، والجمع هو ما ذكر من أن النهي وارد بخصوص ما إذا كان ذلك على سبيل العصبية أو القدح بأحد من الأنبياء، أو نحو هذا، وتجدون الكلام في مثل هذه المسألة في مثل شرح العقيدة الطحاوية، ويقول هنا: وأن أولي العزم منهم أفضلهم، وهم الخمسة المذكورون نصاً في آيتين من القرآن، في سورة الأحزاب: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ[سورة الأحزاب: 7] وفي الشورى قوله: شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ [سورة الشورى: 13]، وليس في الآيتين ما هو مصرِّح بأن هؤلاء هم أولو العزم، إطلاقاً، فالآية الأولى في أخذ الميثاق، والآية الثانية فيما شرع من الدين مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا إلى آخره، وإنما جاء ذكر أولي العزم في آية أخرى، وهي قوله: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [سورة الأحقاف:35] ولم يذكرهم، ولهذا اختلف العلماء في أولي العزم، فبعضهم ذكر هؤلاء الخمسة، وبعضهم ذكر أكثر من هذا أو أقل، فليس هذا محل اتفاق، والذي أظنه أقرب - والله تعالى أعلم - أن أولي العزم لا يختصون بهؤلاء الخمسة، وليس عندنا دليل لا من الكتاب ولا من السنة على تحديد أولي العزم بهؤلاء الخمسة، فالله أمر رسوله ﷺ أن يصبر كما صبر أولو العزم من الرسل، ولم يذكرهم، وأولو العزم هم أصحاب العزائم العظيمة، والصبر العظيم على أذى قومهم، وفي تبليغ ما أمرهم الله ببلاغه، والتخصيص بهؤلاء الخمسة يحتاج إلى دليل، ولا شك أن هؤلاء الخمسة من أجلّ الأنبياء، ومن أفضل الرسل ﷺ ، لكن من أين لنا أن أولي العزم فقط هم هؤلاء، لا يشاركهم في ذلك الوصف أحد من الرسل ﷺ ؟، ما عندنا دليل، ففي الآيتين لم يذكر الله شيئاً يتعلق بأولي العزم، - والله تعالى أعلم -.

قوله: وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا، ذكر الحديث خُفف على داود القرآن  والمقصود به الزبور، فكان يأمر بدوابه فتسرج، فكان يقرؤه قبل أن يفرغ يعني القرآن، يعني أنه خفف عنه، يعني من الناس من يقرأ القراءة الكثيرة في الوقت اليسير، ومن الناس من يكون بحال أخرى عكس ذلك، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء، وهذا مشاهد في قراءة الناس إلى اليوم، من الناس من قد يختم القرآن يوم الجمعة، يبدأ من بعد صلاة الفجر إلى أن يخرج الخطيب، ويختم، ومن الناس من يحتاج في القراءة وفي الختم إلى مدة طويلة، في صلاة التراويح مثلاً، من الناس من يقرأ قراءة لا تشق على الناس إطلاقاً، وفي آخر الشهر يختم، ومن الناس من يطيل أكثر ويقرأ، ولربما يأتي آخر الشهر وهو لم يجاوز المائدة، وهذا شيء مشاهد، فمن الناس من خفف عليه القرآن، ولذلك يوجد من المساجد - وهو أمر يتكرر في كل عام - من يختم في رمضان سبع ختمات وثمانٍ في صلاة الجماعة، ولا يجدون مشقة، ومن الناس من لا يستطيع أن يقرأ نصف القرآن في الشهر، هذا فضل الله يؤتيه من يشاء.

طالب: كلامه - رعاك الله - مسلَّم لمّا قال: ولا خلاف أن محمداً ﷺ ثم إبراهيم ثم موسى؟

ثم بعده إبراهيم ثم موسى ثم عيسى، - الله تعالى أعلم -، لكن إذا نظرت إلى مراتب الأنبياء ﷺ في السماء، إدريس ﷺ في السماء الرابعة، وعيسى ﷺ في الثانية، فإذا قلنا: إن هذا دليل على المفاضلة، فيمكن أن يفهم منه أن إدريس ﷺ أفضل من عيسى ﷺ، قد يقال، ولكن الله تعالى أعلم، ولا شك أن هؤلاء الأنبياء من أفضل الأنبياء والرسل ﷺ، والله يقول: وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ  [سورة النساء: 164].

 

  1. صحيح البخاري: (4/(1747) باب وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا: برقم: (4436)
  2. صحيح مسلم: (4/1782) باب تفضيل نبينا ﷺ على جميع الخلائق: برقم: (2278)