وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً [سورة الإسراء:70].
يخبر تعالى عن تشريفه لبني آدم وتكريمه إياهم في خلقه لهم على أحسن الهيئات وأكملها كقوله تعالى: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ [سورة التين: 4] أي يمشي قائماً منتصباً على رجليه ويأكل بيديه، وغيره من الحيوانات يمشي على أربع، ويأكل بفمه، وجعل له سمعاً وبصراً وفؤاداً يفقه بذلك كله وينتفع به ويفرق بين الأشياء ويعرف منافعها وخواصها ومضارها في الأمور الدينية والدنيوية، وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ: أي على الدواب من الأنعام والخيل والبغال وفي البحر أيضاً على السفن الكبار والصغار، وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أي من زروع وثمار ولحوم وألبان من سائر أنواع الطعوم والألوان المشتهاة اللذيذة، والمناظر الحسنة والملابس الرفيعة من سائر الأنواع على اختلاف أصنافها وألوانها وأشكالها مما يصنعونه لأنفسهم، ويجلبه إليهم غيرهم من أقطار الأقاليم والنواحي، وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً: أي من سائر الحيوانات وأصناف المخلوقات وقد استُدل بهذه الآية الكريمة على أفضلية جنس البشر على جنس الملائكة.
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ هنا يقول الحافظ - رحمه الله -: في خلقه لهم على أحسن الهيئات وأكملها، أي يمشي قائماً منتصباً على رجليه ويأكل بيديه. إلى آخره، هذا مما يدخل في معنى الآية وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ فتكريمه لبني آدم يدخل فيه هذا، ويدخل فيه غيره مما حصل لهذا المخلوق من ألوان التكريم والتفضيل، من ذلك أن الله سخر له ما في الأرض جميعاً، ما في باطنها وما على ظاهرها من الجمادات والحيوانات والنباتات، وخلقه بهذه الهيئة التي تميز بها عن سائر المخلوقات، كما أن الله - تبارك وتعالى - فضله ابتداءً حيث أمر بسجود الملائكة لآدم، وآدم هو أبو البشر، والقاعدة "أن النعمة التي تكون على الآباء تلحق الأبناء"، ولهذا يمتن الله كثيراً في القرآن على الأحفاد والذرية بما حصل من الإفضال والإنعام والتكريم لآبائهم، وهذا كثير يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [سورة البقرة: 47]، يخاطب به الذين كانوا في زمن النبي ﷺ في أمور وقعت لأسلافهم، وهكذا في تكريم الله لبني آدم بأمر الملائكة بالسجود لأبيهم، وعلى كل حال يدخل فيه كل أنواع التكريم، ولا يختص ذلك بأنه يأكل بيده، وإنما ذلك من صور هذا التكريم أن ميزه الله ، فجعله يأخذ الأشياء، ويعطي ويتبادل، وتحصل المعاوضة بينه وبين بني جنسه، وجعل له لساناً ناطقاً مبيناً عما في صدره، بخلاف العجماوات تمرض ولا تشعر بعلتها، وكذلك أيضاً لا تقوم بمصالحها، ولا تتصرف بشئونها تصرف الإنسان، فالإنسان هو الذي يدير ذلك كله، فالله أخضع له هذه الأمور، وجعله بهذه الصورة من الحسن والجمال والكمال بخلاف الحيوانات، فكل هذا من التكريم، وقوله هنا:وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً هذا كله داخل أيضاً في هذا التكريم، ولكنه ذكر من صوره وأنواعه جُملاً تُبِين عن غيرها.
وقوله:وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً، لا يدل على أن جنس البشر أفضل من جنس الملائكة مثلاً، أو أن الصالحين من بني آدم أفضل من الملائكة؛ لأن الله قال:وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً، وهذه المسألة إذا تطرق إليها العلماء من أهل السنة عادة فإنهم يذكرون عند ذلك أن هذه المسألة لا يترتب عليها عمل، وإنما هي من المسائل التي ينبغي الإعراض عنها، وترك الاشتغال بها، وإنما يدندن حولها ويشتغل بها من أولع بالجدل، والاشتغال الذي لا ينفع، وعلى كل حال توجد مواضع في القرآن يقف عندها بعضهم ويتكلم على هذه المسألة وليس هذا الموضع فحسب، ولكن كما قلت العلماء عادة من أهل السنة ينبهون على هذا المعنى، وأن هذا لم نطالب به، ولا يترتب عليه عمل، وينبغي الإعراض عنه، وليس عليه دليل واضح يمكن أن يوقف عنده فيقال: إن الملائكة أفضل بإطلاق، أو أن الأنبياء أفضل بإطلاق، أو أن الصالحين من بني آدم عموماً أفضل بإطلاق، والإنسان إنما يشتغل بما هو بصدده، إذا عرف أن الصالحين أفضل من الملائكة ما الذي يترتب على هذا؟ لا شيء.