الإثنين 29 / شوّال / 1446 - 28 / أبريل 2025
أَفَحَسِبَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوٓا۟ أَن يَتَّخِذُوا۟ عِبَادِى مِن دُونِىٓ أَوْلِيَآءَ ۚ إِنَّآ أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَٰفِرِينَ نُزُلًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

ثم قال: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء [سورة الكهف:102] أي: اعتقدوا أنهم يصلح لهم ذلك، وينتفعون به؟ كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [سورة مريم:82] ولهذا أخبر الله تعالى أنه قد أعد لهم جهنم يوم القيامة منزلاً.

قوله: الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا [سورة الكهف:101]، الذكر مصدر وهو مضاف، فيحتمل أن تكون الإضافة من باب الإضافة إلى الفاعل، ويحتمل أن تكون من باب الإضافة إلى المفعول، كما في قوله تعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [سورة طـه:124]، يحتمل أن يكون أي عن ذكر ربه - تبارك وتعالى –، فمَن لم يذكر الله، فإن قلبه يظلم، وصدره يضيق، ومعيشته تتكدر وتتنغص، كما قال النبي ﷺ: مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه كمثل الحي والميت[1]، ويحتمل أن يكون المراد وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي أي مذكوري، فيكون من باب الإضافة إلى الفاعل، والأول من باب الإضافة إلى المفعول.

ومذكور الله - تبارك وتعالى - هو القرآن، إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [سورة الحجر:9].

وكذلك في الآية الأخرى، في قوله: وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ [سورة الزخرف:36]، فالذكر هنا مضاف إلى الاسم الظاهر، يعني لم يذكر ربه، ويحتمل أن يكون المراد من يعش عن ذكر الرحمن يعني عن مذكوره وهو القرآن، لا يقرؤه ولا يعمل به ولا يتدبره ولا يتحاكم إليه، فهذا تحتمله الآية.

وفي قوله: الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاء عَن ذِكْرِي، أضافه إلى العين بمعنى أنهم في غطاء عن ذكري لا يقرءونه، كانت أعينهم في غطاء عن ذكر الله، وابن القيم - رحمه الله - يربط ذلك بالقلب ويقول: عين القلب.

قوله: وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا؛ أي: لا يعقلون عن الله أمره ونهيه، والسبب في ذلك هو أن القلوب قد طبع عليها والأسماع كذلك، كما قال الله تعالى: خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ [سورة البقرة:7]، فإذا حصل هذا الختم والطبع، فإن الإنسان لا يستطيع أن يسمع السماع الذي ينتفع به، وذلك جزاء وفاقا، لما أعرضوا وكابروا حصل لهم ذلك عقوبة من الله - تبارك وتعالى -، وقوله: وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا، لا شك أنه أدل وأبلغ في المعنى مما لو قيل: وكانوا لا يسمعون؛ لأن الذي لا يسمع ربما يُرفع ويجهر له بالصوت، فيسمع، لكن الله قال: وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا، فمهما صك آذانهم من الحجج، والبينات، والبراهين، وآي القرآن فإنهم لا ينتفعون بذلك، وأقرب مثال على هذا أهل النفاق يسمعون القرآن، ويصلون مع النبي ﷺ ويرون ما يرون ويشاهدون ما يشاهدون ولا يغير ذلك فيهم قليلاً ولا كثيراً، وإذا خرجوا من عند النبي ﷺ وهم يرون الوحي ينزل قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا [سورة محمد:16]، أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا [سورة التوبة:124].

قوله: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا [سورة الكهف:102].

أي: اعتقدوا أنهم يصلح لهم ذلك وينتفعون به، وليس المقصود به أنهم يتخذون المؤمنين أولياء، والهمزة هنا للإنكار، وليس المقصود أنهم يوالون المؤمنين، وإنما المقصود العبادة من دون الله - تبارك وتعالى - كعبادة الملائكة، والذين عبدوا المسيح ، أو الذين عبدوا مَن عبدوا من الصالحين، ونحو ذلك.

فالكفار كانوا يعبدونهم ويقولون: هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ [سورة يونس:18]، مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [سورة الزمر:3]، والله ينكر عليهم هذا، أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء [سورة الشورى:9].

قوله: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي [سورة الكهف:102]، العبودية إما أن تكون بمعنى عبودية القهر، ومنه قوله: إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [سورة مريم:93]، وهذه العبودية عامة يدخل فيها الكفار والطواغيت.

وإما أن تكون إضافة العبودية هنا إضافة تشريف - كما قد يتبادر إلى الذهن - كما في قوله: إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ [سورة الحجر:42]، فإذا قيل إن الإضافة هنا إضافة تشريف فمعنى ذلك: أن ذلك يرجع إلى ما عُبد من دون الله من الأنبياء والملائكة والصالحين، وكون المعبودين يكفرون بعبادة العابدين، هذا عام فيمن كان من الأنبياء والصالحين وغيرهم.

وفي قوله – تبارك وتعالى -: أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء [سورة الكهف:102]، مقدر محذوف، بعضهم يقدره، أي: ولا أعاقبهم العقاب الشديد؟ كلا، بل سأعاقبهم على ذلك، يعني أفحسبوا أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء وأتركهم ولا أعاقبهم؟، كلا، سأعاقبهم على ذلك العقاب الشديد، ويحتمل أن يكون أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء، وأن ذلك ينفعهم، ويجدي عنهم؟، كلا، لا ينفعهم بل يضرهم.

قوله - تبارك وتعالى -: إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا، أي: أعد لهم جهنم يوم القيامة منزلا، ففسرها بالمنزل، فالنُزل بعضهم يفسره بالمنزل، وبعضهم يقول: النُزل هو ما يعد للضيف من القِرى والكرامة، لكن جهنم كيف تكون قرى للضيف، ونُزلاً له ؟ الجواب: ذلك من باب التهكم بهم، كما قال الله : فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [سورة الانشقاق:24]، والبشارة إنما تكون بالإخبار بما يسر خاصة، فيظهر أثر ذلك على بشرة المبشر.

وإعداد جهنم نزلا لهم من باب التهكم، وقد قال الله – تبارك وتعالى – عن شجرة الزقوم: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ [الصافات : 62].

  1. رواه البخاري، كتاب الدعوات، باب فضل ذكر الله (5 / 2353)، برقم: (6044).