الأحد 28 / شوّال / 1446 - 27 / أبريل 2025
ٱلَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قوله: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا ۝ الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا ۝ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا ۝ ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا [ سورة الكهف:103-106].

روى البخاري عن عمرو عن مصعب قال: سألت أبي - يعني سعد بن أبي وقاص عن قول الله: قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً أهم الحرورية؟ قال: لا، هم اليهود والنصارى، أما اليهود فكذبوا محمداً ﷺ، وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا: لا طعام فيها ولا شراب، والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، فكان سعد يسميهم الفاسقين[1].

وقال علي بن أبي طالب والضحاك وغير واحد: هم الحرورية؛ ومعنى هذا عن علي أن هذه الآية الكريمة تشمل الحرورية كما تشمل اليهود والنصارى وغيرهم، لا أنها نزلت في هؤلاء على الخصوص ولا هؤلاء، بل هي أعم من هذا، فإن هذه الآية مكية قبل خطاب اليهود والنصارى، وقبل وجود الخوارج بالكلية، وإنما هي عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية يحسب أنه مصيب فيها، وأن عمله مقبول وهو مخطئ وعمله مردود، كما قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ تَصْلَى نَاراً حَامِيَةً، وقال تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُوراً، وقال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا [سورة النــور:39]، وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: قُلْ هَلْ نُنَبّئُكُم، أي: نخبركم بِالأخْسَرِينَ أَعْمَالاً، ثم فسرهم، فقال: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا [سورة الكهف:104]، أي: عملوا أعمالاً باطلة على غير شريعة مشروعة مرضية مقبولة وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [سورة الكهف:104]، أي: يعتقدون أنهم على شيء، وأنهم مقبولون محبوبون.

ما ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في تفسير قوله – تبارك وتعالى -: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا [سورة الكهف:104]، هو الذي عليه المحققون من المفسرين، والذي نُقل عن بعض السلف من أن المراد بهم الحرورية، أي: الخوارج، وقال بعضهم: هم الرهبان، وقال بعضهم: هم كفار أهل مكة، فهذا من باب التفسير بالمثال - والله تعالى أعلم -، ولا يقصدون به الحصر، فكل من كان بهذه الصفة ضل سعيه وعمله واعتقاده في هذه الحياة الدنيا، وهو يرجو من هذا العمل، وهذه العبادة، وهذا الاعتقاد شيئاً، فأولئك الذين يعبدون المسيح ، أو يعبدون بوذا أويعبدون الأصنام، أو يعبدون الأبقار، ويقدمون لها ما يستطيعون، وقد يكون الرجل في غاية الفقر، ويجمع الأموال السنين الطويلة، ثم يقدم القرابين لهؤلاء المعبودين من دون الله يريد التقرب ويظن أنه على شيء، ولربما أحرق نفسه تقرباً، وبعضهم لربما قطع عضواً من أعضائه تقرباً، كما نقرأ ونسمع، فهذا شاب يقطع لسانه للإله في الهند، يشكو فقره وفقر عائلته، إلى غير ذلك من الأشياء العجيبة، فهؤلاء يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، يظن أنه بهذا يحصل له مطلوبه من الزلفى والتقرب، ويؤجر على ذلك ويثاب، وتكون له الآخرة، وهذا يدل على أن الكفار الذين يصيرون إلى النار قد يعتقد الواحد منهم اعتقاداً جازماً أنه على حق في اعتقاده الباطل، وليس كل هؤلاء الكفار يعلمون أنهم على باطل، وأن الحق في الإسلام، فبعض هؤلاء قد يكون تشرب هذا الباطل، وتغلغل فيه، فيقدم نفسه رخيصة في سبيله، ولا يشك فيه قليلا ًولا كثيراً، فهؤلاء إلى النار، طالما أنه بلغتهم الدعوة، وهؤلاء الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

ويمكن أن يفسر قوله - تبارك وتعالى -: الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا بأنه ذهب واضمحل؛ لأن هذا أحد المعاني التي تأتي لها كلمة ضل في لغة العرب، ضل واضمحل، كما يقال ضل السمن في الطعام، يعني: ذهب واضمحل، وهذا كثير في كلام العرب، وتأتي ضل بمعنى الذهاب عن حقيقة الشيء، كما قال إخوة يوسف لأبيهم - عليه الصلاة والسلام –: تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ [سورة يوسف:95]، فلم يقصدوا أنه ضال وإلا لكانوا كفارا، ومنه قول الله – تبارك وتعالى -: وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى [سورة الضحى:7] فالنبي ﷺ لم يكن على دين قومه قبل نبوته، فمعنى الضلال هنا: الذهاب عن حقيقة الشيء، والمعنى: الذهاب عن حقيقة الوحي.

  1. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الكهف (4/1758)، برقم: (4451).