الأحد 28 / شوّال / 1446 - 27 / أبريل 2025
أُو۟لَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُوا۟ بِـَٔايَٰتِ رَبِّهِمْ وَلِقَآئِهِۦ فَحَبِطَتْ أَعْمَٰلُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَٰمَةِ وَزْنًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله: أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ [سورة الكهف:105] أي: جحدوا آيات الله في الدنيا وبراهينه التي أقام على وحدانيته وصدق رسله، وكذبوا بالدار الآخرة فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [سورة الكهف:105] أي: لا نثقل موازينهم لأنها خالية عن الخير.

روى البخاري عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال: إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة، وقال: اقرءوا إن شئتم فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا[1] وقد رواه مسلم.

وقوله: ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا [سورة الكهف:106] أي: إنما جازيناهم بهذا الجزاء بسبب كفرهم واتخاذهم آيات الله ورسله هزواً، استهزءوا بهم وكذبوهم أشد التكذيب.

إذا تتبعت النصوص تجد أنها تدل على وزن الناس، فإنها تدل على أن صاحب العمل يوزن كما دل عليه هذا الحديث، فهذا الرجل البدين الضخم السمين يوضع في الميزان فلا يزن عند الله جناح بعوضة، ودلت النصوص أيضاً على وزن الصحف التي فيها الأعمال، كما في حديث البطاقة، توضع الدواوين، دواوين السيئات، وتوضع البطاقة في الكفة الأخرى، فتطيش تلك الدواوين، ودلت النصوص على وزن الأعمال، قال سبحانه: وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ۝ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ [سورة الأعراف:8-9]، وقال تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ۝ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ سورة الزلزلة:7-8]، وكل ذلك واقع، فالناس يوزنون، والصحف توزن، والأعمال توزن.

فقوله - تبارك وتعالى -: فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا، يحتمل ما قاله ابن كثير - رحمه الله -، أي: لا نثقل موازينهم؛ لأنها خالية عن الخير، يدل عليه الحديث يؤتى بالرجل فيوزن ... ويحتمل أن يكون فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا، أي: لا نقيم لهم قدراً ولا اعتباراً فلا يُعبأ بهم، فلا شأن لهم، تقول: فلان لا يُقام لكلامه وزن، لا وزن لكلامه، بمعنى لا اعتبار به ولا قدر له، وهذا أسلوب عربي معروف، ويمكن أن يكون بين المعنيين ملازمة.

قال ابن القيم - رحمه الله – في تفسير قوله تعالى قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا [سورة الكهف:103]: "وهذا حال أرباب الأعمال التي كانت لغير الله ، أو على غير سنة رسول الله ﷺ، وحال أرباب العلوم والأنظار التي لم يتلقوها عن مشكاة النبوة، ولكن تلقوها عن زبالة أذهان الرجال، وكناسة أفكارهم، فأتعبوا قواهم وأفكارهم وأذهانهم في تقرير آراء الرجال، والانتصار لهم، وفهم ما قالوه، وبثه في المجالس، والمحاضر، وأعرضوا عما جاء به الرسول ﷺ صفحا، ومن به رمق منهم يعيره أدنى التفات طلبا للفضيلة، وأما تجريد اتباعه وتحكيمه، وتفريغ قوى النفس في طلبه وفهمه، وعرض آراء الرجال عليه، ورد ما يخالفه منها، وقبول ما وافقه، ولا يلتفت إلى شيء من آرائهم وأقوالهم، إلا إذا أشرقت عليها شمس الوحي، وشهد لها بالصحة فهذا أمر لا تكاد ترى أحدا منهم يحدث به نفسه، فضلا عن أن يكون آخيته ومطلوبه، وهذا الذي لا ينجي سواه، فوارحمتا لعبد شقي في طلب العلم، واستفرغ فيه قواه واستنفد فيه أوقاته، وآثره على ما الناس فيه، والطريق بينه وبين رسول الله ﷺ مسدود، وقلبه عن المرسل وتوحيده والإنابة إليه والتوكل عليه والتنعم بحبه والسرور بقربه مطرود ومصدود، وقد طاف عمره كله على أبواب المذاهب فلم يفز إلا بأخس المطالب، سبحان الله إن هي والله إلا فتنة أعمت القلوب عن مواقع رشدها، وحيرت العقول عن طرق قصدها"[2].

هذا مثل الذين اشتغلوا بعلوم الفلاسفة، وأعرضوا عن الوحي، وأخبارهم في هذا كثيرة، أحدهم يقول:

لقد طفتُ المعاهد كلها وسيّرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أرَ إلا واضعاً كف حائر على ذقنٍ أو قارع سن نادم

 

وآخر يقول:

أضع الملحفة على وجهي وأقلب النظر، وأقارن بين أقوال هؤلاء وهؤلاء حتى يستبين الصبح، ولم يتبين لي شيء.

وآخر عند الموت يسأل من دخل عليه يقول له، ما تعتقد؟، يقول ما يعتقده المسلمون، قال: وأنت مطمئن القلب بذلك؟، فقال: نعم، قال: فاحمد الله على هذه النعمة؛ فإني والله لا أدري ما أعتقد، والله لا أدري ما أعتقد، والله لا أدري ما أعتقد، ويبكي، هذا عند موته، عند الاحتضار.

والجويني كلامه في هذا معروف، يقول لقد خضت البحر الخضم، وخليت أهل الإسلام وعلومهم، ودخلت فيما نهوني عنه، وها أنا أموت على عقيدة العجائز، أرجع وما حصلت شيئاً.

والثاني الذي يقول - المنقول عن الشهرستاني -:

نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وكم من جبال قد علا شرفاتها رجال فزالوا والجبال جبال

فهذه النتيجة التي خرجوا بها بعد العمر الذي قضوه في قيل وقال، ومجادلات، وكل يوم في عقيدة، وكل يوم في مذهب ورأي، خرجوا بالخسارة والحيرة، والله المستعان، قل مثل ذلك في غيرهم، من يقرأ في أخبار الرهبان مثلاً، راهب يقف أربعين سنة في بئر لا ينام - يعني على الأرض -، ولا يجلس ولا يستريح ولا يأكل من الطيبات، أربعين سنة، لا يغتسل ولا يقص أظفاره ولا شعره، يطلب ما عند الله بهذا، وبعضهم يهيم على وجهه يأكل من نباتات البرية مع الوحش، كأنه بهيمة، يطلب بهذا ما عند الله وأشياء عجيبة وأمور يحمد الإنسان ربه - تبارك وتعالى - أن هداه للإسلام، ويسأله التثبيت، وأن يبصره للحق، وأن يدله على ما اختلف فيه من الحق بإذنه، والله أعلم.

  1. رواه البخاري، كتاب التفسير، باب تفسير سورة الكهف (4/1759)، برقم: (4452) ، ومسلم، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم (4/2147)، برقم: (2785).
  2. التفسير القيم لابن القيم، جمع وترتيب: محمد أويس الندوى (1/199)