السبت 10 / ذو الحجة / 1446 - 07 / يونيو 2025
وَإِذِ ٱعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا ٱللَّهَ فَأْوُۥٓا۟ إِلَى ٱلْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِۦ وَيُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

فلما وقع عزمهم على الذهاب والهرب من قومهم، واختار الله تعالى لهم ذلك، وأخبر عنهم بذلك في قوله: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [سورة الكهف:16]، أي: وإذا فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير الله، ففارقوهم أيضًا بأبدانكم فَأُووا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته [سورة الكهف:16] أي: يبسط عليكم رحمة يستركم بها من قومكم ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم [سورة الكهف:16] الذي أنتم فيه، مِرفَقًا أي: أمرًا ترتفقون به، فعند ذلك خرجوا هُرابًا إلى الكهف، فأَوَوْا إليه، ففقدهم قومهم من بين أظهرهم، وتَطَلَّبهم الملك فيقال: إنه لم يظفر بهم، وعَمَّى الله عليه خبرهم، كما فعل بنبيه محمد ﷺ وصاحبه الصديق حين لجأا إلى غار ثور، وجاء المشركون من قريش في الطلب، فلم يهتدوا إليه مع أنهم يمرون عليه، وعندها قال النبي ﷺ حين رأى جَزع الصديق في قوله: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى موضع قدميه لأبصرنا، فقال: يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟[1]، وقد قال تعالى: إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة التوبة:40]، فقصة هذا الغار أشرف وأجل وأعظم وأعجب من قصة أصحاب الكهف.

فالسياق الذي ذكره الحافظ ابن كثير - رحمه الله - في سبب وصفة مخرج هؤلاء الفتية إنما هو متلقى عن الأخبار الإسرائيلية، وكما هو معلوم أن مثل هذه الأخبار لا يعتمد عليها، وإنما تذكر للاستئناس، ولا يفسر بها القرآن، والنبي ﷺ قال: حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج[2]، مع أن الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يُعرض عن كثير من هذه الأخبار الإسرائيلية.

وقول العلامة ابن كثير – رحمه الله –: "وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس، أن يفر العبد منهم خوفًا على دينه، كما جاء في الحديث: يوشك أن يكون خيرُ مال أحدكم غنمًا يتبع بها شغف الجبال ومواقع القَطْر، يفر بدينه من الفتن ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس، ولا تشرع فيما عداها، لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع".

هذا إجمال يحتاج إلى شيء من التفصيل أكثر من هذا، فإذا وقعت الفتن فالناس إزاء ذلك على أنواع، منهم من لا يصلح له العزلة وينبغي أن يخالط الناس، وهو من يكون سبباً لإطفاء الفتنة وتعليم الناس وبيان الحق لهم والمخرج من هذه الفتنة، دون الدخول معهم فيها، فهذا قد يتعين عليه الخلطة.

والصنف الثاني: هو من إذا لم يعتزل فإنه يدخل في الفتنة، إما لأنه لا يميز بين الحق والباطل أصلاً، أو لأنه يميز من الناحية النظرية، عنده نوع تمييز ولكنه من الناحية العملية لا ينضبط، فيخوض مع الخائضين في الفتنة، فمثل هذا قد يتعين أو يجب عليه أن يعتزل.

والقسم الثالث: هو من لا يدخل في الفتنة ولكنه لا ينفع الناس، إما لأنه ليس عنده من العلم والعمل ما يصلح معه أن يكون محلاً للاقتداء، فإذا قال لم يُسمع، ولا يقتدي به أحد، أو أن الفتنة صارت غالبة بحيث إن الناس لا يعبئون به، ولا ينتفعون بكلامه ولا فعاله، فمثل هذا قد يكون السلامة له في العزلة، فالإنسان لا يأمن الفتن أن يقع فيها، وكما جاء في الحديث: تعرض الفتن على القلوب كالحصير عودا عودا، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء، حتى تصير على قلبين، على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السماوات والأرض، والآخر أسود مربادا كالكوز مجخيا، لا يعرف معروفا ولا ينكر منكرا إلا ما أشرب من هواه[3].

فينبغي للمؤمن دائماً أن يسأل ربه الثبات على الحق والتسديد والهداية، وهو يقول دائماً في كل ركعة: اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ[سورة الفاتحة:6]، فالفتن خطافة، وهي شديدة العلوق بالقلب، وما حصل في زمان الصحابة وما بعدهم ومن بعدهم من أهل القرون المفضلة لعبرة لكل من يعتبر، فتجد الرجل لربما يكون من أئمة الدين، وتجد زوجته وخادمه وولده كل واحد منهم على مذهب، هذا من الخوارج، وهذا من المرجئة، وهذا من القدرية، وهذا كان موجوداً في ذلك الزمن فما بالك بزماننا!.

قوله – تبارك وتعالى -: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ [سورة الكهف:16] الاستثناء يحتمل أن يكون منقطعاً بمعنى لكن، ويحتمل أن يكون متصلاً، والاستثناء المتصل هو ما كان المستثنى فيه من جنس المستثنى منه، بخلاف المنقطع، فإذا كان هؤلاء القوم يعبدون الله ويعبدون آلهة أخرى، فيكون الاستثناء متصلاً، وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ من هذه المعبودات، وإذا كان أولئك لا يعبدون الله أصلاً وإنما يعبدون آلهة أخرى فيكون الاستثناء منقطعاً، فتكون "ما" هذه دالة على العموم.

قوله – تبارك وتعالى -: فَأُووا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته [سورة الكهف:16]، أي: يبسط عليكم رحمة يستركم بها من قومكم، وغير ذلك مما يحصل لهم من ألطاف الله ، ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم [سورة الكهف:16] الذي أنتم فيه، والأمر هنا بمعنى الشأن؛ لأن الأمر يأتي بمعنى طلب الفعل.

مِرفَقًا، أي: أمرًا ترتفقون به، يعني وتنتفعون، يهيئ لكم حالاً يحصل لكم بها الانتفاع والصلاح.

ثم ذكر واقعة الغار في هجرة النبي ﷺ وكيف أن الله - تبارك وتعالى - عمّى ذلك على المشركين.

والفتية خرجوا من قومهم إلى هذا الغار، وهذا الغار في محل ليس ببعيد عن تلك البلدة التي خرجوا منها، وأياً كانت هذه البلدة، وقد ورد اسمها في بعض هذه الروايات الإسرائيلية، يقال لها: طرسوس، وبلاد الشام كما هو معلوم ليست بلاداً كبيرة واسعة الأرجاء، بحيث إنه يمكن أن يعتزل الإنسان عن الناس في مكان لربما لا يصلون إليه إلا بغاية الصعوبة، فبلاد الشام مليئة بالبشر والقرى، ليست صحراء، فمكان الغار قريب جدا، بدليل أنهم بعثوا واحداً منهم يأتيهم بالطعام من القرية، ومع ذلك بقوا هذه المدة، ثلاثمائة وتسع سنوات، ولم يصل أحد إلى هذا الكهف، فعادةً الناس يعرفون البلد حجراً حجراً، ويعرفون الكهوف والغيران، ويعرفون مواقع الماء في الجبال، وهذا يوجد حتى في البيئات الصحراوية كما عندنا، فكيف ببلد كالشام، فهذا مستغرب، فهو آية من آيات الله ، حيث في هذه المدة الطويلة لم يأتهم أحد، فلو تأملت في حال جبل النور والغار وموضع الغار، فكيف توصلوا إليه برأس هذا الجبل الذي تعرفون حاله وصفته، كيف وصل الناس إلى ذلك المكان وعرفوا أنه يوجد فيه غار ؟ الناس ما يتركون حجراً إلا ويفتشون عنه.

فهذه آية من آيات الله، فإذا أراد الله شيئاً كان، وقد أتى الكفار إلى فم الغار الذي كان النبي ﷺ فيه ولم يستطيعوا أن يروه.

وموسى ﷺ ومن معه لما وقع لهم التيه بقوا في صحراء ليست واسعة الأرجاء إطلاقاً، بقوا فيها نحواً من أربعين سنة - بحسب الوقف والوصل في الآية - حتى قيل إنهم كانوا يمشون سائر النهار، فإذا نزلوا في الليل في مكان، فإذا أصبحوا إذا هم بالمكان الأول، وهذه الصحراء التي تاهوا فيها كان معهم أدلاء بلا شك، وحتى لو لم يوجد معهم أحد، فإن الناس إذا توجهوا من أي جهة سيخرجون من هذه الصحراء خلال أيام، من أي اتجاه بلا استثناء، ومع ذلك يبقون هذه المدة الطويلة، ومعهم نبي من أجلّ أنبياء الله ويظللون بالغمام وينزل عليهم المن والسلوى، فإذا أراد الله شيئاً لا بد أن يكون، أذكر هذا من أجل أن من الناس من يقول: أين الدجال الذي في الجزيرة الذي ورد في قصة تميم الداري؟ وأين يأجوج ومأجوج إذا ما كانوا هم الصينيين؟ لماذا لا يطلع عليهم الناس، أين الأقمار الصناعية ؟ نقول: إذا أراد الله شيئاً كان، لا يعجزه شيء.

  1. رواه البخاري، كتاب التفسير، سورة براءة التوبة (4 / 1712)، برقم: (4386)، ورواه مسلم، كتاب فضائل الصحابة ، باب من فضائل أبي بكر الصديق  (4/1854)، برقم: (2381).
  2. رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل (3/1275)، برقم: (3274).
  3. رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب بيان أن الإسلام بدأ غريبا وسيعود غريبا وأنه يأرز بين المسجدين (1/128)، برقم: (144).