الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا۟ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوٓا۟ إِذًا أَبَدًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المصنف - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا ۝ إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَن تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا [سورة الكهف:19-20] يقول تعالى: وكما أرقدناهم بعثناهم صحيحة أبدانهم وأشعارهم وأبشارهم، لم يفقدوا من أحوالهم وهيئاتهم شيئاً، وذلك بعد ثلاثمائة سنة وتسع سنين؛ ولهذا تساءلوا بينهم: كَمْ لَبِثْتُمْ، أي: كم رقدتم ؟ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ؛ لأنه كان دخولهم إلى الكهف في أول نهار واستيقاظهم كان في آخر نهار؛ ولهذا استدركوا فقالوا: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ، أي: الله أعلم بأمركم، وكأنه حصل لهم نوع تردّد في كثرة نومهم، فالله أعلم، ثم عدلوا إلى الأهم في أمرهم إذ ذاك، وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب فقالوا: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ أي: فضتكم هذه، وذلك أنهم كانوا قد استصحبوا معهم دراهم من منازلهم لحاجتهم إليها، فتصدقوا منها وبقي منها؛ فلهذا قالوا: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ أي: مدينتكم التي خرجتم منها والألف واللام للعهد، فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا أي: أطيب طعاماً، كقوله: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا [النور:21] وقوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى [الأعلى:14] ومنه الزكاة التي تُطيب المال وتطهره.

وقوله: وَلْيَتَلَطَّفْ أي: في خروجه وذهابه وشرائه وإيابه، يقولون: وَلْيَتخَفَّ كل ما يقدر عليه، وَلا يُشْعِرَنَّ أي: ولا يعلمن، بِكُمْ أَحَدًا ۝ إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أي: إن علموا بمكانكم، يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ يعنون أصحاب دقيانوس، يخافون منهم أن يطلعوا على مكانهم، فلا يزالون يعذبونهم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوهم في ملتهم التي هم عليها أو يموتوا، وإن وافقتموهم على العود في الدين فلا فلاح لكم في الدنيا ولا في الآخرة؛ ولهذا قال: وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا.

فقوله - تبارك وتعالى -: فَابْعَثُوا أَحَدَكُم بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُم بِرِزْقٍ مِّنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا [سورة الكهف:19] كلام الحافظ ابن كثير - رحمه الله - فيه إجمال، أي: أطيب طعاماً.

وابن جرير - رحمه الله - يرى أن المعنى أي: ينظر أيَّ أهل المدينة أطيب طعاماً وأحل من جهة المكاسب وأطهر، وهذا القول يختلف عن قول من قال: أَزْكَى طَعَامًا، أي: ينظر في الأطيب من الطعام من حيث هو.

ولكن لا يخفى أن بين القولين ملازمة، فإذا كانت مكاسب هذا الطعام محرمة فإنه يكون حراماً بهذا الاعتبار، يقال: أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا أي: من جهة مكسبه، ومن حيث ذاته حيث هو، فيأتي بالطعام الطيب الذي لا شبهة فيه.

وعلى كل حال بهذا الاعتبار يمكن أن يفهم المعنى، والله أعلم.

وقوله - تبارك وتعالى -: إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ يقول ابن كثير - رحمه الله -: "فلا يزالون يعذبونهم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوهم في ملتهم التي هم عليها أو يموتوا، وإن وافقتموهم على العود في الدين فلا فلاح لكم في الدنيا ولا في الآخرة".

يَرْجُمُوكُمْ الرجم يحتمل أن يكون المقصود به الرجم بالحجارة كما قاله بعض أهل التفسير، ومنهم من يقول: أي: يرجموكم بالشتم بالقول، وهذا الذي اختاره ابن جرير - رحمه الله -.

وسبق الكلام على الاستعاذة وأن المراد بقوله: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم يحتمل أن يكون المرجوم فعيلاً بمعنى مفعول أي مرجوم، والشيطان ليس المراد أنه مرجوم بالحجارة، وإنما يرجم بالسب واللعن والشتم وما إلى ذلك، ويحتمل أن يكون بمعنى راجم، أي: أنه يرجم الناس بالوساوس والخواطر والأفكار السيئة.

وهكذا في قوله تعالى: لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا [سورة مريم:46]، يحتمل أن يكون المعنى: لَأَرْجُمَنَّكَ يعني بالقول، ويحتمل أيضاً أن يكون بالحجارة.