الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
وَكَذَٰلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوٓا۟ أَنَّ وَعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ ٱلسَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَآ إِذْ يَتَنَٰزَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ۖ فَقَالُوا۟ ٱبْنُوا۟ عَلَيْهِم بُنْيَٰنًا ۖ رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ ۚ قَالَ ٱلَّذِينَ غَلَبُوا۟ عَلَىٰٓ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قوله: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا [سورة الكهف:21].

يقول تعالى: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ أي: أطلعنا عليهم الناس، لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا ذكر غير واحد من السلف: أنه كان قد حصل لأهل ذلك الزمان شك في البعث وفي أمر القيامة.

وقال عكرمة: كان منهم طائفة قد قالوا: تبعث الأرواح ولا تبعث الأجساد، فبعث الله أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك.

في قوله: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [سورة الكهف:21]، لِيَعْلَمُوا يحتمل أن يكون ذلك عائداً إلى أصحاب الكهف ليعلموا قدرة الله من حيث اللفظ، ولكنه في غاية البعد؛ لأن ذلك ربط بقوله: أَعْثَرْنَا، ويأباه السياق تماماً، فلو أنه قال: كذلك بعثناهم ليعلموا أن وعد الله حق فهذا واضح.

وذكروا أنه لما أراد أحدهم الخروج ليذهب إلى المدينة في شراء شيء لهم ليأكلوه تنكر وخرج يمشي في غير الجادة، حتى انتهى إلى المدينة، وذكروا أن اسمها دقسوس.

وهو يظن أنه قريب العهد بها، وكان الناس قد تبدلوا قرناً بعد قرن، وجيلاً بعد جيل، وأمة بعد أمة، وتغيرت البلاد ومن عليها، فجعل لا يرى شيئًا من معالم البلد التي يعرفها، ولا يعرف أحداً من أهلها، لا خواصها ولا عوامها، فجعل يتحير في نفسه ويقول: لعل بي جنوناً أو مساً أو أنا حالم، ويقول: والله ما بي شيء من ذلك، وإن عهدي بهذه البلدة عشية أمس على غير هذه الصفة، ثم قال: إن تعجيل الخروج من هاهنا لأولى لي، ثم عمد إلى رجل ممن يبيع الطعام، فدفع إليه ما معه من النفقة، وسأله أن يبيعه بها طعاماً، فلما رآها ذلك الرجل أنكرها وأنكر ضَرْبها، فدفعها إلى جاره، وجعلوا يتداولونها بينهم ويقولون: لعل هذا قد وجد كنزاً، فسألوه عن أمره، ومن أين له هذه النفقة ؟ لعله وجدها من كنز، ومن أنت؟ فجعل يقول: أنا من أهل هذه البلدة وعهدي بها عشية أمس وفيها دقيانوس، فنسبوه إلى الجنون، فحملوه إلى ولي أمرهم، فسأله عن شأنه وخبره حتى أخبرهم بأمره، وهو متحير في حاله، وما هو فيه، فلما أعلمهم بذلك قاموا معه إلى الكهف - ملك البلد وأهلها -، حتى انتهى بهم إلى الكهف، فقال لهم: دعوني حتى أتقدمكم في الدخول لأعلم أصحابي، فدخل فيقال: إنهم لا يدرون كيف ذهب فيه، وأخفى الله عليهم خبرهم، ويقال: بل دخلوا عليهم ورأوهم وسلم عليهم الملك واعتنقهم، وكان مسلماً فيما قيل واسمه يندوسيس ففرحوا به وآنسوه بالكلام، ثم ودعوه وسلموا عليه، وعادوا إلى مضاجعهم، وتوفاهم الله ، فالله أعلم.

هذا كله ملتقى عن بني إسرائيل.

وقوله: وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ أي: كما أرقدناهم وأيقظناهم بهيآتهم، أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان، لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ أي: في أمر القيامة، فمن مثبت لها ومن منكر، فجعل الله ظهورهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم.

ويحتمل: إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ يحتمل أن المراد بذلك أصحاب الكهف، أي: في أصحاب الكهف، والله أعلم.

كثير من المفسرين يقولون: إن المراد بذلك البعث والقيامة، فأراد الله أن يبين لهم وأن يقررهم إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ، وإذا كان المعنى كذلك فلا يصح معه أن يقال بأن الملك الذي أدركهم كان مسلما، وأن الأحوال قد تبدلت بعد أولئك الكفار.

ويحتمل أن يكون المعنى يتنازعون في شأن القيامة في إثباتها ونفيها، ويحتمل: يتنازعون بينهم أمرهم، أي: أصحاب الكهف حينما عثروا عليهم.

قوله: فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ أي: سدوا عليهم باب كهفهم، وذروهم على حالهم، قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا.

قوله: رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ يحتمل أن يكون المعنى متصلاً لفظاً ومعنى، يعني: أن ذلك من قول هؤلاء القائلين ومن تمامه.

ويحتمل أن يكون ذلك من الموصول لفظاً المفصول معنى، ويكون ذلك من قول الله : فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا، قال الله: رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ، ولكن الأول أقرب، والأصل في الكلام الاتصال، وأنه من مقول متكلم واحد.

قوله: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا [سورة الكهف:21] الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ، ولكن هل هم محمودون أم لا ؟

الراجح أن الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ، يعني: الملك ومن معه، قالوا: لأن هؤلاء هم أهل الغلبة، وبعضهم يقول: الذين قالوا ذلك هم أهل الإيمان، وهذا يخالف قول من قال بأن الملك كان مسلماً، ولا دليل على هذا، ويزعم هؤلاء الذين قالوا بأن ذلك من قول أهل الإيمان أنهم ذكروا المسجد: لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا والواقع أن مثل هذا لا يصدر من أهل الإيمان بل يكون من القبوريين المشركين والوثنيين الذين يعبدون الأضرحة والمشاهد وما أشبه هذا؛ ولهذا إذا قلنا بأن ذلك لا يكون من أهل الإيمان فإن هذا الفعل يكون من أهل الإشراك ولا عبرة بقولهم ولا فعلهم، وهذا هو الأقرب، والدليل على ذلك: أن النبي ﷺ قال: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد[1]، وقد يقول قائل: لعل هذا كان جائزاً في زمانهم وفي عهدهم، ولكن هذا الفهم أو الاحتمال غير صحيح، بدليل اللعن كيف يكون جائزاً في زمانهم ويلحقهم اللعن بسببه؟ لا يمكن، فعن عائشة - ا -: أن أم سلمة ذكرت لرسول الله ﷺ كنيسة رأتها بأرض الحبشة يقال لها مارية، فذكرت له ما رأت فيها من الصور، فقال رسول الله ﷺ:  أولئك قوم إذا مات فيهم العبد الصالح أو الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله[2].

ففعل هؤلاء غير محمود، ثم إن الشريعة جاءت بتحريم الشرك وذرائع الشرك، ولا شك أن بناء المساجد على القبور من أعظم ذرائع الشرك، وعليه يكون المعنى في قوله: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا أنه من كلام أهل الكلمة والنفوذ وهم غير مسلمين، ولا يفهم من هذا أن الملك كان مسلما، كما ذكرت الروايات الإسرائيلية .

الذين قالوا ذلك هم أصحاب الكلمة والنفوذ، ولكن هل هم محمودون أم لا ؟ فيه نظر؛ لأن النبي ﷺ قال: لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، يحذر ما فعلوا[3]، وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب أنه لما وجد قبر دانيال في زمانه بالعراق، أمر أن يُخفى عن الناس، وأن تدفن تلك الرقعة التي وجدوها عنده، فيها شيء من الملاحم وغيرها.

الذي وُجد ليس قبر دانيال، وإنما الذي وجد هو دانيال، كان في بيت المال عند الفرس، رجل مسجى لم يتغير فيه شيء، وكانوا إذا أجدبوا خرجوا يستسقون به، يقال: إن هذا هو دانيال وعنده رقعة، يعني: عنده كتاب أو ورق أو جلد مكتوب فيه، ويقال: إنه من أنبياء بني إسرائيل ممن أخذهم بُخْتُنَصَّر في خراب بيت المقدس، أخذ كثيراً من أشرافهم أولادَ الأنبياء وخلقاً لا يحصيهم إلا الله، وقتل من قتل وأخذ هؤلاء معه إلى العراق، يقال: إن من جملة من أخذهم دانيال، ويقال: إنه حبسه في بئر، والله تعالى أعلم.

وقد أمر عمر بن الخطاب أن يُحفر له بالليل قبور متعددة ويوضع في واحد منها ويعمّى خبره، وهذا الذي قد حصل.

وهناك قاعدة ذكرها أهل العلم، وهي: أن ما يذكره الله في القرآن من حكاية قول القائلين، فإما أن يعقبه بما يشعر برده أو يسكت عنه، فإذا عقب بما يشعر برده فهذا واضح في بطلانه، إما أن يذكر ذلك قبله أو معه أو بعده، وإما أن يسكت عنه، فدل ذلك على صحته، غالباً، فمثلا قوله – تبارك وتعالى -: وَقَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَل لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ [سورة البقرة:116]، وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ [سورة البقرة:111]، وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَىَ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [سورة البقرة:113]، وتارة يذكر ما هو حق وباطل: وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا [سورة الأعراف:28]، فيُبطل أحد الأمرين ويسكت عن الآخر مما يدل على صحته: قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ [سورة الأعراف: 28]، وسكت عن الثانية: وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا فدل على صحتها، وسيأتي في قوله تعالى: سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ [سورة الكهف:22]. قوله: رَجْمًا بِالْغَيْبِ دل على بطلان هذه الأقوال.

ثم قال: وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ [سورة الكهف:22]، ولم يقل: رَجْمًا بِالْغَيْبِ، فاستنبط جماعة من أهل العلم منهم شيخ الإسلام، ومنهم الحافظ ابن كثير أن ذلك هو الصحيح؛ ولهذا قال ابن عباس -ا- وبعض التابعين إنهم من القليل الذين علموه.

فقوله: قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا [سورة الكهف:21]، لم يعقب الله – تبارك  وتعالى – على بطلان هذا القول، وقد احتج القبوريون على صحة فعلهم في عبادة القبور بهذه الآية، ويرد عليهم من وجهين:

الأول: أن القواعد أغلبية، فنقول في القاعدة: هي أغلبية، يعني: إن سكت عنه لم يذكر معه أو قبله أو بعده ما يدل على بطلانه، فهذا يدل على صحته غالباً وليس دائماً، فالقواعد لها مستثنيات فيكون هذا واحداً من الصور الخارجة عن القاعدة.

الثاني: لو فرض أن عبادة القبور كان جائزاً في شريعتهم، فإنه لا يجوز في شريعة من الشرائع أن يعبد غير الله ، وهذا قد حرم بهذه الشريعة، وهذه الشريعة أكمل الشرائع، وفيها من سد الذرائع الموصلة إلى الشرك ما ليس في غيرها، فحرمه الله علينا، وشرع من قبلنا إذا وُجد في شرعنا ما يدل على تحريمه ومنعه فلا شك قطعاً بالاتفاق أنه ليس بشرع لنا، هذا أمر متفق عليه، وإن اختلف في أصل القاعدة. فلا يترك المنصوص الصريح الواضح لأمر فيه احتمال، لا يجزم به.

  1. رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور (1 / 446)، برقم: (1265)، ومسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهي عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهي عن اتخاذ القبور مساجد (1 / 376)، برقم: (530).
  2. رواه البخاري، كتاب الصلاة، باب الصلاة في البيعة (1/167)، برقم: (424)، ومسلم،  كتاب المساجد ومواضع الصلاة،  باب النهى عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهى عن اتخاذ القبور مساجد (1/375)، برقم: (528)، واللفظ للبخاري.
  3. جاء الحديث عند البخاري، كتاب الأنبياء، باب ما ذكر عن بني إسرائيل (3 / 1273)، برقم: (3267)، ومسلم،  كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب النهى عن بناء المساجد على القبور واتخاذ الصور فيها والنهى عن اتخاذ القبور مساجد (1/377)، برقم: (531)، بلفظ: (لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد). يحذر ما صنعوا.