الأربعاء 02 / ذو القعدة / 1446 - 30 / أبريل 2025
سَيَقُولُونَ ثَلَٰثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًۢا بِٱلْغَيْبِ ۖ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ ۚ قُل رَّبِّىٓ أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ ۗ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَآءً ظَٰهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قوله: سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا [سورة الكهف:22]، يقول تعالى مخبراً عن اختلاف الناس في عدة أصحاب الكهف، فحكى ثلاثة أقوال، فدل على أنه لا قائل برابع، ولما ضَعَّف القولين الأولين بقوله: رَجْمًا بِالْغَيْبِ أي: قولاً بلا علم، كمن يرمي إلى مكان لا يعرفه، فإنه لا يكاد يصيب، وإن أصاب فبلا قصد، ثم حكى الثالث وسكت عليه أو قرره بقوله: وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ فدل على صحته، وأنه هو الواقع في نفس الأمر.

وقوله: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى، إذ لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم، لكن إذا أطلعنا على أمر قلنا به، وإلا وَقَفْنَا حيث وقَّفنا.

وقوله: مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ أي: من الناس، قال قتادة: قال ابن عباس - ا -: أنا من القليل الذي استثنى الله ، كانوا سبعة.

وكذا روى ابن جريج، عن عطاء الخرساني عنه أنه كان يقول: أنا ممن استثنى الله ، ويقول: عدتهم سبعة.

وروى ابن جرير عن ابن عباس - ا -: مَا يَعْلَمُهُمْ إِلا قَلِيلٌ قال: أنا من القليل، كانوا سبعة.

فهذه أسانيد صحيحة إلى ابن عباس - ا - أنهم كانوا سبعة، وهو موافق لما قدمناه.

قال تعالى: فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا أي: سهلاً هيناً؛ فإن الأمر في معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة، وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا أي: فإنهم لا علم لهم بذلك إلا ما يقولونه من تلقاء أنفسهم رجماً بالغيب، أي: من غير استناد إلى كلام معصوم، وقد جاءك الله يا محمد بالحق الذي لا شك فيه ولا مرية، فهو المقدم الحاكم على كل ما تقدمه من الكتب والأقوال.

قوله - تبارك وتعالى -: فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا [سورة الكهف:22]، أي: سهلاً هيناً، المقصود أن الإنسان لا يتعمق في هذا ولا يكثر من الجدل والتمحل فيه، وإنما يذكر ما عنده أو ما عرفه في هذا مما أوحى الله إلى نبيه ﷺ دون الدخول معهم في مراء في هذه القضية التي لا علم لهم بها، ولا يترتب عليها كبير فائدة، وهذا أدبٌ أدَّبَ الله به نبيه ﷺ وهو القدوة والمقدم بحيث تكون الأمة بهذه الصفة، وأن يترك الواحد المراء والجدل وإن كان محقا.

فالإنسان الذي يريد أن يقرر الباطل أو يدحض الحق أو يريد الجدال لمجرد الجدال أو لشهوة في نفسه وهوى فمثل هذا لا يجادل في الأصل.

وكذلك إذا كانت القضية التي يجادل فيها مما لا يترتب عليه عمل ولا فائدة؛ ولهذا كره السلف البحث والتنقير والجدل فيما يسمى بالأغاليط وصعاب المسائل وتتبع ذلك والاشتغال به، وهكذا الاشتغال بكل ما لا يترتب عليه عمل أو لا يكاد يقع أصلاً، وهذا الذي وقع فيه المتكلمون بطوائفهم المختلفة فاشتغلوا بالقيل والقال والجدال العقيم الذي لا ينبني عليه عمل ولا يقرب إلى الله وإنما صار الأمر كما قال بعضهم:

نهاية إقدام العقول عقال وغاية سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وغاية دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

فمثل هذا ما الفائدة منه، وإنما ينتج منه الحيرة والاضطراب والتنقل من دين إلى دين واعتقاد إلى اعتقاد، كما قال عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -: من جعل دينه غرضاً للخصومات أكثر التنقل، والمنقول عن السلف كثير في ذم هذا الصنيع والتحذير منه، وأن ذلك لا يجدي على أهله نفعاً؛ ولهذا كان بعض الذين وقعوا في هذا الأمر يقول: أضع الملحفة على وجهي وأصابح الصبح وأقارن بين أقوال هؤلاء وهؤلاء ولا يتبين لي من ذلك شيء، والآخر يقول: أموت وما عرفت إلا أن الممكن يفتقر إلى الموجد والافتقار أمر سلبي، أموت وما عرفت شيئاً، والجويني رجل قد خبر هذه الأمور وعرفها يقول عند موته: أموت على عقيدة عجائز نيسابور.

فالاشتغال بالجدل في أمر لا فائدة فيه ولا طائل تحته - سواء كان ذلك في أمور الاعتقاد أو في الأمور العملية - هذا أمر لا يجدي، فيعرض الإنسان عنه ولا يقف عنده، ويمكن أن يذكر ما عنده أو ما عرفه دون التعمق وقطع الزمان بمثل هذه الأمور، والله تعالى أعلم.

وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا [سورة الكهف:22] لأنهم لا يعرفون، لا علم عندهم بذلك، والنبي ﷺ قد أوحى الله إليه، فهو مؤيد بالوحي، كيف يستفتي من هو دونه والأصل أن يستفتي الإنسان من هو أعلم منه؟!.