الثلاثاء 01 / ذو القعدة / 1446 - 29 / أبريل 2025
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَا۟ىْءٍ إِنِّى فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المصنف - رحمنا الله تعالى وإياه - في تفسير قوله تعالى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ۝ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا [سورة الكهف:23-24].

هذا إرشاد من الله تعالى لرسول الله ﷺ إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل أن يرد ذلك إلى مشيئة الله ، علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون.

كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال: قال سليمان بن داود -عليهما السلام-: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة -وفي رواية: تسعين امرأة وفي رواية: مائة امرأة- تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله، فقيل له - وفي رواية: قال له الملك - قل: إن شاء الله، فلم يقل، فطاف بهن فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان، فقال رسول الله ﷺ: والذي نفسي بيده لو قال: إن شاء الله لم يحنث، وكان دركاً لحاجته وفي رواية: ولقاتلوا في سبيل الله فرساناً أجمعون[1].

وقد تقدم في أول السورة ذكر سبب نزول هذه الآية في قول النبي ﷺ لما سئل عن قصة أصحاب الكهف: غداً أجيبكم[2]فتأخر الوحي خمسة عشر يوماً، وقد ذكرناه بطوله في أول السورة فأغنى عن إعادته.

وقوله: وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [ سورة الكهف24] قيل: معناه إذا نسيت الاستثناء فاستثن عند ذكرك له، قاله أبو العالية والحسن البصري.

وقال هشيم عن الأعمش عن مجاهد عن ابن عباس - ا -: في الرجل يحلف؟ قال: له أن يستثني ولو إلى سنة، وكان يقول: وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [ سورة الكهف:24] في ذلك.

قيل للأعمش: سمعته عن مجاهد؟ قال: حدثني به ليث بن أبي سليم، يرى ذهب كسائي هذا.

ومعنى قول ابن عباس - ا -: أنه يستثني ولو بعد سنة، أي: إذا نسي أن يقول في حلفه أو في كلامه إن شاء الله، وذكر: ولو بعد سنة، فالسُّنة له أن يقول ذلك ليكون آتياً بسُنَّة الاستثناء حتى ولو كان بعد الحنث، قاله ابن جرير - رحمه الله تعالى -، ونص على ذلك، لا أن يكون رافعاً لحنث اليمين ومسقطاً للكفارة.

وهذا الذي قاله ابن جرير - رحمه الله - هو الصحيح، وهو الأليق بحمل كلام ابن عباس عليه، والله أعلم.

وقال عكرمة: وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [ سورة الكهف:24] أي: إذا غضبت. وهذا تفسير باللازم.

وروى الطبراني عن ابن عباس - ا - في قوله: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ۝ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [ سورة الكهف:23-24] أن تقول: إن شاء الله.

وقوله: وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا [سورة الكهف:24] أي: إذا سُئلت عن شيء لا تعلمه فاسأل الله تعالى فيه، وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد في ذلك، والله أعلم.

فقوله - تبارك وتعالى -: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا [سورة الكهف:23] ما أشار إليه المؤلف - رحمه الله - مما يتعلق بسبب النزول، وأن النبي ﷺ قال لهم بعد سؤالاتهم: غداً أجيبكم فتأخر الوحي خمسة عشر يوماً، ذكرنا من قبل أن هذا لا يثبت.

قوله: وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [سورة الكهف:24] "قيل: معناه إذا نسيت الاستثناء فاستثن عند ذكرك له"، وكثير من الأصوليين والفقهاء ينقلون عن ابن عباس - ا – "يستثني ولو إلى سنة" وفي بعض الروايات أكثر من هذا، ونقل عن بعض السلف كذلك بعض الأقوال القريبة، وبعضهم يفهم من هذا أن الاستثناء في اليمين يؤثر في اليمين ولو بعد حين.

وهناك كلام للعلماء على مسائل متعددة للاستثناء:

- مسألة الاستثناء بإلا، هل يصح أن يكون المستثنى أكثر من جنس المستثنى منه أو لا ؟ وهل الاستثناء يعود إلى جميع المذكورات قبله سواء كانت جملاً أو كانت مفردات؟

كما أنهم يتكلمون أيضاً على الاستثناء، هل يشترط أن يكون من متكلم واحد، أو أنه يصح لو أن الاستثناء كان من آخر؟ كما قال النبي ﷺ حينما حرم مكة، وأنه لا يقطع شجرها، أو لا يعضد، فقال العباس: إلا الإذخر[3].

-  مسألة اشتراط الاتصال بين المستثنى والمستثنى منه، وقد تكلم العلماء على قضايا دقيقة فيما لو أنه استثنى وعرض له عارض طبيعي، -سعال أو عطاس- فهل يؤثر هذا أو لا يؤثر؟

- لو أنه استثنى بعد سكتة، فلو قال: لك عليّ مائة، ثم سكت، ثم قال: إلا عشرة، هل ينفع هذا أو لا ؟ ولو أنه نوى ذلك بقلبه هل تنفع هذه النية أم لا ؟

وقد ذكر ابن كثير وابن جرير – رحمهما الله - أن مقصود ابن عباس - ا - ليس من جهة أنه لا يحنث، بمعنى: لو أنه حلف على شيء ثم قال: إن شاء الله بعد سنة، ولم يفعل هذا الشيء الذي حلف على فعله لا يحنث، فلو قال: إن شاء الله بعد سنة فإنه تجب عليه الكفارة، وإنما المقصود أن يتأدب بما أدبه ربه  - تبارك وتعالى - وهو أن يعلق ذلك بمشيئته، فلا يكون شيء إلا بمشيئة الله ، فإذا تذكر بعدُ غفلته عن الاستثناء فإنه يقول: إن شاء الله، وإن كان هذا لا يؤثر من جهة الحكم، فهذا مقصود ابن عباس - ا -، وبهذا الاعتبار يكون القول بوجوب الاتصال في الاستثناء بين المستثنى والمستثنى منه متوجهاً لا إشكال فيه إلا للعوارض الطبيعية فإن ذلك لا يؤثر.

وقد تكلم العلامة ابن القيم – رحمه الله - على الأثر الوارد عن ابن عباس – ا -، فقال رحمه الله: "وتفسير الآية عند جماعة المفسرين أنك لا تقل لشيء أفعل كذا وكذا حتى تقول: إن شاء الله، فإذا نسيت أن تقولها فقلها متى ذكرتها، وهذا هو الاستثناء المتراخي الذي جوزه ابن عباس، وتأول عليه الآية، وهو الصواب.

فغلط عليه من لم يفهم كلامه، ونقل عنه: أن الرجل إذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثاً، أو قال: نسائي الأربع طوالق ثم بعد سنة يقول: إلا واحدة، أو إلا زينب أن هذا الاستثناء ينفعه، وقد صان الله عن هذا من هو دون غلمان ابن عباس بكثير فضلاً عن البحر حبر الأمة وعالمها الذي فقهه الله في الدين، وعلمه التأويل، وما أكثر ما ينقل الناس المذاهب الباطلة عن العلماء بالأفهام القاصرة، ولو ذهبنا نذكر ذلك لطال جداً، وإن ساعد الله أفردنا له كتاباً، والذي أجمع عليه المفسرون: أن أهل مكة سألوا النبي ﷺ عن الروح، وعن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، فقال: أخبركم غداً ولم يقل: إن شاء الله، فتلبث الوحي، ثم نزلت هذه الآية، قال ابن عباس ومجاهد والحسن وغيرهم: معناه: إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت فاستثنِ، قال ابن عباس - ا -: ويجوز الاستثناء إلى سنة، وقال عكرمة - رحمه الله -: واذكر ربك إذا غضبت، وقال الضحاك والسدي: هذا في الصلاة، أي: إذا نسيت الصلاة فصلِّها متى ذكرتها"[4].

وقال - رحمه الله -: "وقد قال الله تعالى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ۝ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ [سورة الكهف:23-24] وهذا ليس بيمين.

ويشرع الاستثناء في الوعد والوعيد، والخبر عن المستقبل، كقوله: غداً أفعل إن شاء الله، وقد عتب الله على رسوله ﷺ حيث قال لمن سأله من أهل الكتاب عن أشياء: غداً أخبركم ولم يقل: إن شاء الله، فاحتبس الوحي عنه شهراً، ثم نزل عليه: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ۝ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ [سورة الكهف:23-24] الآية، أي: إذا نسيت ذلك الاستثناء عقيب كلامك فاذكره به إذا ذكرت، هذا معنى الآية، وهو الذي أراده ابن عباس - ا - بصحة الاستثناء المتراخي، ولم يقل ابن عباس قط ولا من دونه: إن الرجل إذا قال لامرأته أنت طالق أو لعبده أنت حر، ثم قال بعد سنة: إن شاء الله أنها لا تطلق، ولا يعتق العبد، وأخطأ من نقل ذلك عن ابن عباس، أو عن أحد من أهل العلم ألبته، ولم يفهموا مراد ابن عباس".

لو أن قائلاً قال بأنه يصح الاستثناء المتراخي ويؤثر ذلك حكماً، فمعنى ذلك أنه لا كفارة يمين ولا نذر ولا شيء، وكل من نذر ولو بعد سنة قال: إن شاء الله، ثم بعد ذلك لا يلزمه الكفارة ولا الوفاء بالنذر، فهذا ما يقول به أحد؛ فلماذا شرعت كفارة الأيمان ووجب الوفاء بالنذور؟

فالمقصود: أن الإنسان إذا قال في اليمين أو في النذر: إن شاء الله، فإن ذلك لا يلزم معه الكفارة لو وقع الحنث، لا يلزمه كفارة، لكن إذا قال الإنسان: سأفعل الشيء الفلاني غداً، فمن الأدب المتعين أن يقول: إن شاء الله، فإذا نسي أن يقول: إن شاء الله فتذكر بعد حين فإنه يراجع نفسه ويقول: إن شاء الله؛ لأنه لا يكون شيء إلا بمشيئة الله، هذا من حيث الأدب اللائق في الكلام ورد الأمور إلى مشيئة الله - تبارك وتعالى - لا من حيث ترتب الأحكام الشرعية عليه.

قوله: وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [سورة الكهف:24] أي: الاستثناء، وكثير من الناس يفهم من هذه الآية من ظاهرها أنه إذا نسي شيئاً أو نسي كلاماً أراد أن يقوله قال: لا إله إلا الله، وبعض الناس يقول: اللهم صل على محمد.

وليس هذا هو المراد، بل المعنى وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [ سورة الكهف:24] إذا نسيت أن تقول: إن شاء الله فقل ذلك تأدباً بأن ترجع الأمور إلى مشيئته - تبارك وتعالى -، هذا هو المعنى.

وقوله: وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا [سورة الكهف:24] "أي: إذا سُئلت عن شيء لا تعلمه فاسأل الله تعالى فيه، وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد في ذلك"، وهذا التفسير جيد، وهو لا يخالف قول من قال: وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا [ سورة الكهف:24] أي: من خبر أصحاب الكهف ونبئهم لأقرب من هذا رشداً، وذكر الله  طرفاً من خبرهم، واختلاف الناس فيهم، وعددهم، والمدة التي بقوا فيها في الكهف، وأحال العلم إليه - -: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [سورة الكهف:26] فيعلّم نبيه ﷺ هذا الأدب، وبعضهم يقول: وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا [سورة الكهف:24] يعني: عسى أن يعطيني من الآيات والبينات والحجج على النبوة ما يكون أقرب في الرشد، وأدل من قصة أصحاب الكهف، هكذا قال بعض المفسرين، والآية تحتمل المعنيين.

  1. أخرجه البخاري في كتاب الجهاد والسير، باب من طلب الولد للجهاد (4/ 22 -2819) (6639) وفي كتاب الأيمان والنذور، باب: كيف كانت يمين النبي ﷺ (8/ 130)، (6639 )، ومسلم في كتاب الأيمان، باب الاستثناء (3/ 1276- 1654).
  2. انظر: فتح الباري 11/603، وذكره ابن كثير في تفسيره 5/132-133 قال "وقد ذكر محمد بن إسحاق سبب نزول هذه السورة الكريمة، قال: حدثني شيخ من أهل مصر، قدم علينا منذ بضع وأربعين سنة، عن عكرمة، عن ابن عباس، فذكر قصة اجتماع اليهود بالنبي ﷺ وسؤالهم عن أصحاب الكهف وعن ذي القرنين وعن الروح. وتأخر الوحي عنه ثم نزول جبريل بسورة أصحاب الكهف. كما أورد السيوطي في الدر المنثور 5/376-377 عن مجاهد هذه القصة، وفيه "فأنزل الله هذه الآية ". وقد عزاه السيوطي إلى ابن المنذر.
  3. رواه البخاري، كتاب الجنائز، باب الإذخر والحشيش في القبر (2/92)، برقم (1349)، ومسلم،  كتاب الحج، باب تحريم مكة وصيدها وخلاها وشجرها ولقطتها، إلا لمنشد على الدوام (2/986)، برقم: (1353).
  4. مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين (2/403).