وقوله: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [سورة الكهف:26] أي: إذا سُئلت عن لبثهم، وليس عندك علم في ذلك وتوقيف من الله تعالى فلا تتقدم فيه بشيء، بل قل في مثل هذا: اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ [سورة الكهف:26] أي: لا يعلم ذلك إلا هو ومن أطلعه الله عليه من خَلْقه، وهذا الذي قلناه عليه غير واحد من علماء التفسير كمجاهد، وغير واحد من السلف والخلف.
وقال قتادة في قوله: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ [سورة الكهف:25] الآية، هذا قول أهل الكتاب، وقد رده الله تعالى بقوله: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [سورة الكهف:26] قال: وفي قراءة عبد الله: وقالوا ولبثوا يعني: أنه قاله الناس، وهكذا قال مُطرَف بن عبد الله.
وفي هذا الذي زعمه قتادة نظر، فإن الذي بأيدي أهل الكتاب أنهم لبثوا ثلاثمائة سنين من غير تسع، يعنون بالشمسية، ولو كان الله قد حكى قولهم لما قال: وَازْدَادُوا تِسْعًا [ سورة الكهف:25] والظاهر من الآية إنما هو إخبار من الله لا حكاية عنهم، وهذا اختيار ابن جرير - رحمه الله - والله أعلم.
بعدما أعلمه الله بمدة مكثهم، ثلاثمائة وتسع سنوات، قال: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [سورة الكهف:26].
وقد ذكر ابن جرير – رحمه الله –: أي: أنك إن سئلت عن عددهم، وليس عندك توقيف، قبل أن تُخبَر بهذا، باعتبار أنهم سألوه قبل ذلك فـ قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [سورة الكهف:26].
قوله: "وقال قتادة في قوله: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ [سورة الكهف:25] الآية، هذا قول أهل الكتاب، وقد رده الله تعالى بقوله: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [سورة الكهف:26] قال: وفي قراءة عبد الله: وقالوا ولبثوا يعني: أنه قاله الناس، وهكذا قال مُطرَف بن عبد الله".
هذا خلاف ظاهر القرآن، فظاهر القرآن أن هذا من كلام الله، ومن إخباره لنبيه ﷺ، فيحتجون بهذه القراءة، وهي بطبيعة الحال ليست من القراءات المتواترة.
تكلموا في مدة مكثهم من غير علم وقالوا :ولبثوا في كهفهم ثلاثمائة ثم قال الله له: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [سورة الكهف:26] ليس كما يقولون.
لكن هذا القول بعيد، والقراءة المتواترة لا تشعر بهذا لا من قريب ولا من بعيد، فالله يخبر عن مدة مكثهم، قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [سورة الكهف:26]، وعليه فكلام ابن كثير أنك إن سئلت عن عددهم قبل أن ينزل عليك في ذلك من العلم بالمدة التي بقوها ففوض العلم إلى الله، فقل: الله أعلم بما لبثوا.
ومن أهل العلم من يقول: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [ سورة الكهف:26] المدة التي بقوها في الكهف في نومهم كانت هذه المدة ثلاثمائة وتسع سنوات، لكن كم بقوا بعدها ؟
ابن جرير - رحمه الله - يقول: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [سورة الكهف:26] هذه ليست في مدة نومتهم، وإنما فيما هو أوسع من هذا، وهو ما كان من مدة بقائهم وحياتهم بعد استيقاظهم.
فهل حينما ذهب هذا يتسوق لهم ورجع وتبعه الناس كما في بعض الروايات الإسرائيلية، واكتشفوا خبره، وجاءوا معه إلى الكهف، فدخل ثم عُمِّي خبرهم على الناس، ولا يدرون أين ذهب، أو أنه الملِك جاء وجلس معهم؟ ثم بعد ذلك ودّعوه، ثم أخلدوا إلى النوم، ثم بعد ذلك قبضوا وماتوا، كم جلسوا بعد استيقاظهم هذا؟ هل رجعوا إلى المدينة مع الناس؟ مع أن هذا خلاف الظاهر؛ لأنهم قالوا: ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ [سورة الكهف:21] فيدل على أنهم ما غادروا هذا الكهف، لكن كم كانت مدة البقاء بعد هذا؟
ابن جرير يقول: هذا هو المراد بقوله: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [سورة الكهف:26] ذكر لهم مدة النومة، ثم قال: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [سورة الكهف:26] يعني: بعدها.
وبعضهم كابن عطية يقول: المراد: قل الله أعلم بما لبثوا بمدة بقائهم إلى زمن النبي ﷺ حيث أعلمه الله بخبرهم، وما وقع لهم من هذه الواقعة العجيبة. وهذا فيه بعد، في مدة لبثهم إلى زمن النبي ﷺ، كم للواقعة من قرن؟!
قوله: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [سورة الكهف:26] ابن جرير يقول: إلى مدة الإعثار عليهم وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ [سورة الكهف:21] بعدما استيقظوا كم جلسوا ثم عثر عليهم ساعات أو يوماً؟ كم بقوا ؟ فقال: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [سورة الكهف:26] والكلام الذي ذكره ابن كثير - رحمه الله - هنا له وجه جيد من النظر، والله تعالى أعلم.
وبعضهم يقول: إن المراد بذلك: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [سورة الكهف:26] المراد هذه التسع التي ازدادوها على الثلاثمائة: وَازْدَادُوا تِسْعًا [سورة الكهف:25] هل هي تسع سنوات أو تسع ليالٍ أو تسع ساعات أو تسعة أشهر؟ وهذا لا يخلو من بعد - والله أعلم -، فإذا ذُكرت السنوات: ثلاثمائة سنة وذكرت زيادة التسع عليها فالأصل أن ذلك في عداد السنين.
وقوله: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ [ سورة الكهف:26] أي: أنه لبصير بهم، سميع لهم.
قال ابن جرير: وذلك في معنى المبالغة في المدح، كأنه قيل: ما أبصره وأسمعه! وتأويل الكلام: ما أبصر الله لكل موجود، وأسمعه لكل مسموع! لا يخفى عليه من ذلك شيء.
ثم روي عن قتادة في قوله: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ [سورة الكهف:26] فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع.
وقوله: مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [سورة الكهف:26] أي: أنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر الذي لا معقب لحكمه، وليس له وزير ولا نصير ولا شريك ولا مشير، تعالى وتقدس.
في قوله: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ [سورة الكهف:26] يعني: ما أعظم سمعه وما أنفذ بصره - -! يسمع جميع الأصوات الخفيات والجليات، ويرى جميع المبصرات كذلك؛ ولما قال الله : أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا [ سورة مريم:38] يعني: ما أعظم السمع الذي يسمعونه، والبصر الذي يبصرونه، وهذا كما قال الله : وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا [سورة النساء:108] معهم يعني: بسمعه وإحاطته: مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ [سورة المجادلة:7].
فبقي الكلام على الضمير في قوله – تبارك وتعالى -: مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [سورة الكهف:26].
الحافظ ابن كثير - رحمه الله - يقول: أي أنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر الذي لا معقب لحكمه، وليس له وزير ولا نصير ولا شريك ولا مشير، تعالى وتقدس، ولم يبين مرجع الضمير، فمن أهل العلم من يقول: إن ذلك يرجع إلى أصحاب الكهف أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ [سورة الكهف:26] يعني: أصحاب الكهف الذين أورد خبرهم؛ لأنه قال: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا [سورة الكهف:25] يعني: أصحاب الكهف قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [سورة الكهف:26] فمن قال: إن ذلك يرجع إلى أصحاب الكهف بنى على الأصل والقاعدة، وهي: أن توحيد مرجع الضمائر أولى من تفريقها.
ومن أهل العلم من يقول: إن ذلك يرجع إلى الكفار الذين عاصروا النبي ﷺ، وبعضهم يقول: ذلك عائد إلى الخلق عموماً، ولا يختص بالكافرين؛ لأن الله قال: لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ [سورة الكهف:26] ما أبصره وما أسمعه بأحوال خلقه أجمعين! مَا لَهُم [سورة الكهف:26] أي: الخلق، فيكون الضمير هنا عائداً إلى غير مذكور فيما سبق، وهذا يوجد في القرآن وفي كلام العرب إذا فهم من الكلام، والعرب تستعمله من باب الاختصار ثقة بفهم السامع مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ [سورة الكهف :26]، كما في قوله - تبارك وتعالى -: حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ [سورة ص:32] على قول من فسر ذلك - كما هو مشهور - بالشمس، توارت الشمس بالحجاب، مع أن الشمس لم يكن لها ذكر فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ [سورة ص:32] فبعضهم يقول: الخيل انطلقت حتى غابت، أي: أبعدت، وبعضهم يقول: هذا يرجع إلى الشمس، حتى توارت الشمس بالحجاب، ولم يكن للشمس ذكر.
فقوله: مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا [سورة الكهف (26)] وحكمه هنا يشمل الحكم القضائي الكوني، فالله - تبارك وتعالى - هو المنفرد وحده في تدبير هذا الكون، كما أنه يشمل أيضاً الحكم الشرعي إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ [سورة يوسف:40] فالله - تبارك وتعالى - لا يشرك في حكمه أحداً.