الثلاثاء 01 / ذو القعدة / 1446 - 29 / أبريل 2025
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا۟ شُرَكَآءِىَ ٱلَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا۟ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال المصنف - رحمه الله تعالى - في تفسير قوله تعالى: وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا ۝ وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا [سورة الكهف:52-53].

يقول تعالى مخبرًا عما يُخاطب به المشركين يوم القيامة على رءوس الأشهاد تقريعًا لهم وتوبيخًا: نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أي: في دار الدنيا، ادعوهم اليوم ينقذونكم مما أنتم فيه، كما قال تعالى: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ [سورة الأنعام:94].

وقوله: فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ كما قال: وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ الآية، وقال: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ الآيتين، وقال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ۝ كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [سورة مريم:81-82].

وقوله: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا قال ابن عباس - ا -، وقتادة وغير واحد: مَهْلكًا.

والمعنى أن الله تعالى بين أنه لا سبيل لهؤلاء المشركين، ولا وصول لهم إلى آلهتهم التي كانوا يزعمون في الدنيا، وأنه يفرق بينهم وبينها في الآخرة، فلا خلاص لأحد من الفريقين إلى الآخر، بل بينهما مهلك وهول عظيم وأمر كبير.

وأما إن جعل الضمير في قوله: بَيْنَهُمْ عائدًا إلى المؤمنين والكافرين، كما قال عبد الله بن عمرو - ا -: إنه يفرق بين أهل الهدى والضلالة به، فهو كقوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [سورة الروم:14]، وقال: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [سورة الروم:43]، وقال تعالى: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [سورة يس:59]، وقال تعالى: وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ إلى قوله: وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [سورة يونس:28-30].

وقوله: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا أي: إنهم لما عاينوا جهنم حين جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك، ورأى المجرمون النار تحققوا لا محالة أنهم مواقعوها، ليكون ذلك من باب تعجيل الهم والحزن لهم، فإن توقع العذاب والخوف منه قبل وقوعه عذاب ناجز.

وقوله: وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا أي: ليس لهم طريق يعدل بهم عنها ولابد لهم منها.

فقوله - تبارك وتعالى -: وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا سماهم هنا شركاء كما قال: وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء، وهم ليسوا بشركاء ولا شفعاء، ولكن هذا يرِد استعماله في القرآن مراعًى فيه حال المخاطَب، وإن كان المخاطِب لا يقر به، ولا يعترف بصحته، وهذا كثير وهو أنواع، وهذا أحد هذه الأنواع.

وقوله - تبارك وتعالى -: فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا، هذا الموضع يحتاج فيه إلى معرفة ثلاثة أمور:

الأمر الأول: معنى البين.

الأمر الثاني: مرجع الضمير وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ.

الأمر الثالث: المراد بالمَوْبِق.

وكل ذلك مما لم يتفق عليه المفسرون، فقوله - تبارك وتعالى -: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ قد يفسر على ظاهره المتبادر، إذ قيل بأن الموبق هو العداوة، وجعلنا بينهم العداوة، كما قال الله : وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء [سورة المائدة:64]، والعداوة تكون بين الناس، وتكون بين العابدين والمعبودين من دون الله في الآخرة، فإذا قيل: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا إن الموبق هو العداوة فهذا يكون له وجه في تفسير البين، ولكن تفسير الموبق بالعداوة ليس هو الأرجح والأقرب في هذا الموضع، وإن قال به بعض السلف ، ويحتمل أن يكون المراد بالبين وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ هو الوصل، وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ [سورة الأنفال:1] أي ذات الوصل، وجعلنا بينهم أي: الصلة والوصل الذي بينهم هلاكاً، بمعنى أن الروابط والعلائق التي كانت بينهم صارت عذاباً وشؤماً عليهم، وكبير المفسرين ابن جرير -رحمه الله- يقول: وجعلنا فعلهم ذلك مهلكاً.

وعلى هذا المعنى يكون تواصلهم الذي كان في الدنيا سبباً لهلاكهم، ويكون مهلكاً لهم يوم القيامة، بعضهم يقول: جعلنا الهلاك بينهم، وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا؛ لأن كلاً منهم معين للآخر على إشراكه وباطله ومعصيته وضلاله وانحرافه.

والضمير في قوله: بَيْنَهُمْ يحتمل أن يكون بين العابدين والمعبودين، وهذا الذي مشى عليه الحافظ ابن كثير - رحمه الله -.

ويقول: وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ، تقطع بينكم يعني الصلة الوشيجة التي كانت بينهم، إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ [سورة البقرة:166]، إلى غير ذلك من الآيات التي تدل على هذا المعنى، وهذا القول هو الأقرب، والسياق يدل عليه؛ لأن الله يقول: وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا، بين العابدين والمعبودين، فالضمير يرجع إلى ما ذكر قبله، ويحتمل أن يكون وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ أي: بين الكافرين في الآخرة جعلنا بينهم موبقاً.

وذكر الحافظ ابن كثير - رحمه الله - هنا بعض ما يشهد له أيضاً، وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [سورة الروم:43]، يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [سورة الروم:43]، فيتفرق هؤلاء الكفار.

والاحتمال الثالث: وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ أي: بين المؤمنين والكفار، وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقًا، يفصل بينهم، وهذه ثلاثة معانٍ أرجحها أن ذلك يكون بين العابدين والمعبودين، وهذا الذي يدل عليه ظاهر السياق، والله تعالى أعلم.

والمَوبِق المشهور من أقوال السلف أنه: الهلاك، جعل بينهم هلاكاً، فإذا قلت بين العابدين والمعبودين أي: جعل بينهم هلاكاً، سواء قلت بأنها الصلة التي كانت بينهم، أو قلت بأن المراد جعل بينهم أي بين هؤلاء وهؤلاء هلاكاً، وبعضهم يقول: أي موعداً، وابن الأعرابي - رحمه الله - يقول: كل شيء حاجز بين شيئين فهو موبق، فإذا قلت مثلاً: هذا بين العابدين والمعبودين، بينهم موبق أي لا يستطيعون الوصول إليهم، ويدعونهم ولا يستجيبون لهم، ولا ينفعونهم ولا يغنون عنهم من الله شيئاً، وبينهم هلاكاً، بينهم عذاباً يحيط بهم، وكما قال الله : لَهُم مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [سورة الزمر:16].

قوله - تبارك وتعالى -: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا، هنا قال: وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ كما أخبر أيضاً أن النار تراهم فقال: إِذَا رَأَتْهُم مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا [سورة الفرقان:12]، فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا الظن في كلام العرب بمعنى اليقين وهو المراد هنا، ظنوا أنهم مواقعوها أي: أيقنوا وعلموا؛ لأن الله - تبارك وتعالى - أخبر عن حالهم في الآخرة بأنهم يكونون في غاية الإدراك فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [سورة ق:22]، والمعرفة، فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ، أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا، يعني: ما أسمعَهم وما أبصرَهم!، فتذهب عنهم تلك الغشاوة، والحجب التي تحول بينهم وبين السماع والإبصار في الدنيا، فيعاينون الحقائق ويتيقنون المصير، أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ [سورة السجدة:12]، فالظن هنا بمعنى اليقين، فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا، علموا أنهم داخلون فيها لا محالة، ويأتي الظن أيضاً في كلام العرب بمعنى طرف الرجحان؛ لأن القسمة ثلاثية: إذا أبعدنا اليقين فيكون الطرف الراجح والمرجوح والمستوي، فالراجح يقال له: ظن والمرجوح يقال له: وهم، والمستوي الذي استوى فيه الطرفان يقال له: شك، فكثيراً ما يطلقون، وهذا الذي يطلقه الأصوليون، والفقهاء تبعاً لهم، يطلقون الظن على طرف الرجحان، والراجح يقال له: ظن، يقولون: حكم العمل بالظن، يعني الظن الراجح، وإذا قالوا: إن الحكم الفلاني حكم ظني يقصدون أنه لا يفيد القطع لكنه هو الطرف الراجح وليس بوهم، بمعنى أنك إذا أخذت الطرف المرجوح وتركت الطرف الراجح تكون متبعاً للوهم، وهو ما يسمى عند الأصوليين أيضاً في الدلالة إذا لجأ إليه يقال له: التأويل، وهو المعنى الضئيل الذي يحتمله اللفظ احتمالاً ضعيفاً، وهذا اللجوء يقال له: التأويل، وذاك يقال له: المؤول، يعني الطرف الضعيف.

فظنوا أنهم مواقعوها يعني: أيقنوا وعلموا أنهم مواقعوها، وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا أي: ليس لهم طريق يعدل بهم عنها.