الأحد 06 / ذو القعدة / 1446 - 04 / مايو 2025
فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَىٰهُ ءَاتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَٰذَا نَصَبًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

وقوله: فَلَمَّا جَاوَزَا [سورة الكهف:62] أي: المكان الذي نسيا الحوت فيه، ونُسب النسيان إليهما، وإن كان يُوشَع هو الذي نسيه، كقوله تعالى: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ [سورة الرحمن:22]، وإنما يخرج من المالح في أحد القولين.

فلما ذهبا عن المكان الذي نسياه فيه بمرحلة قال موسى لفتاه: آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا [سورة الكهف:62] أي: الذي جاوزا فيه المكان نَصَبًا أي: تعباً، قال: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [سورة الكهف:63] ولهذا قال: وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ [سورة الكهف:63] أي: طريقه فِي الْبَحْرِ عَجَبًا ۝ قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ [سورة الكهف:64] أي: هذا هو الذي نطلب فَارْتَدَّا [سورة الكهف:64] أي: رجعا عَلَى آثَارِهِمَا [سورة الكهف:64] أي: طريقهما، قَصَصًا أي: يقصان آثار مشيهما، ويقفوان أثرهما.

فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا [سورة الكهف:65] وهذا هو الخضر ، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله ﷺ.

قوله: فَلَمَّا جَاوَزَا [سورة الكهف:62] أي: المكان الذي نُسي الحوت فيه، ونسب النسيان إليهما وإن كان يوشع هو الذي نسيه وهذا كثير تجده في القرآن وفي كلام العرب، وهذا يشبه - وإن لم يكن منه - العام المراد به الخصوص، وإن كان هنا لا عموم، لكن وجه الشبه أنه أضاف شيئاً إلى معنى، أو إلى أكثر مما حصل منه، أو ممن صدر منه، والمقصود أن ذلك وقع من بعضه، وعكسه أيضاً يوجد.

يقول: فَلَمَّا جَاوَزَا [سورة الكهف:62] أي: المكان الذي نسيا الحوت فيه، قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا [سورة الكهف:62] أي: الذي جاوزنا فيه المكان نَصَبًا بمعنى: أن النصب حصل لهما بعد مجاوزة السفر الذي أنشأه بعد هذه الاستراحة التي ذهب فيها الحوت.

قوله: نَصَبًا أي: تعباً، وابن القيم - رحمه الله - ذكر هنا لطيفة من اللطائف: قال: هذا السفر إلى المخلوق لقي فيه النصب، وأما السفر إلى الله فلا نصب فيه، وذكر أن موسى حينما واعده ربه، وذهب إلى الميقات أنه صام أربعين يوماً، ولم يذكر هذا النصب حينما ذهب إلى الطور.

قال: قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [سورة الكهف:63] أضاف إلى الشيطان لأن الشيطان هو سبب النسيان، كما قال الله : وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [سورة الأنعام:68].

وقال: ولهذا قال: وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ [سورة الكهف:63] أي: طريقه فِي الْبَحْرِ عَجَبًا [سورة الكهف:63] هذا يحتمل أن يكون من الموصول لفظاً المفصول معنىً، وقد مضى نظائره في القرآن، كقوله في سورة يوسف عن قيل امرأة العزيز: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [سورة يوسف:52] يحتمل أن يكون من كلام امرأة العزيز، ويحتمل أن الله قال: قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ [سورة يوسف:51] إلى أن قال: ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ [سورة يوسف:52] يحتمل أن يكون من جملة كلامها، ويحتمل أن يكون ذلك من كلام يوسف .

وهكذا قبله أيضاً في سورة الأنعام في ذكر الله – تبارك وتعالى - المناظرة بين إبراهيم ﷺ وبين عبدة الكواكب، قال الله لما خوفوه من آلهتهم أن يضروه، أو أن يقتلوه أو يمرضوه: وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [سورة الأنعام:81]، ثم قال: الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ [سورة الأنعام:82] يحتمل أن يكون هذا من كلام الله فصل بين الفريقين، بيّن أن الأمن لأهل الإيمان، ويحتمل أن يكون من جملة كلام إبراهيم ﷺ فيما خاطب به قومه، وهذا كثير.

فقوله: قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [سورة الكهف:63] يمكن أن يكون هذا كلام يوشع انتهى إلى هذا الحد.

ثم قال الله : وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا [سورة الكهف:63] ويحتمل أن يكون ذلك جميعاً من كلام يوشع، فهو يقول: فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا [سورة الكهف:63] وذلك بهذه الطريقة كيف أحياه الله وخرج من المِكتل، وكيف دخل في البحر فبقي موضع دخول الحوت كالنفق أو السرب في البحر لم يتحول ولم يتغير؟، والله أعلم.

وقوله: فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا [سورة الكهف:65] يقول: وهذا هو الخضر ، سمي بالخضر لما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة مرفوعاً إلى النبي ﷺ: إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة بيضاء فإذا هي تهتز من خلفه خضراء[1] هذا هو السبب، فالخضر بهذا الاعتبار لقب، وقد جاءت تسميته باسمه غير الخضر في بعض الأخبار المتلقاة عن بني إسرائيل، والله تعالى أعلم.

قوله: فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا [سورة الكهف:65] هذا الموضع بالإضافة إلى ما ذكره في آخر ما قال لموسى : وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا [سورة الكهف:82] هذه المواضع الثلاثة، يعني: الجملة الأولى في قوله: آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا [سورة الكهف:65]، والجملة الثانية: وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا [سورة الكهف:65] والموضع الثالث: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [سورة الكهف:82] يستدل بها من يقول بأن الخضر نبي من الأنبياء، وهذا قول مشهور، قال به طائفة من أهل العلم سلفاً وخلفاً، قالوا: إن الرحمة قد وردت في القرآن مراداً بها النبوة: إِلَّا رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ [سورة القصص:86] ولما قالوا: لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ۝ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ [سورة الزخرف:32] يعني النبوة، فقالوا: الرحمة جاءت مراداً بها النبوة، والقرآن أحسن ما يفسر به هو القرآن.

وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا [سورة الكهف:65] قالوا: هذا هو الوحي، وإنما يكون الوحي للأنبياء، وقوله: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [سورة الكهف:82] يدل على أنه يوحى إليه.

وعلى كل حال القول الآخر: أنه ليس بنبي، وإنما هو رجل صالح، هذان قولان مشهوران، وأما قول من قال بأنه ملك فهذا غلط، ولا دليل عليه.

وعلى كل حال يمكن أن يأتي وحي إلى غير نبي، فالله قال: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ [سورة القصص:7] وقد يوحى إلى نبي قبل النبوة، فعيسى ﷺ وهو في المهد قال: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا [سورة مريم:30] وكذلك أيضاً يوسف ﷺ وهو صغير قبل النبوة لما ذهبوا به إلى الجب كما سبق، قال: وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ [سورة يوسف:15] يعني: سيأتي يوم تقول لهم: تذكرون حينما فعلتم كذا وكذا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ لا يعرفونك، ولا يعلمون أنك يوسف، وهذا الذي حصل في نهاية الأمر: لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ [سورة يوسف:15]، فقد يوحي الله إلى بعض عباده قبل النبوة، ومريم حينما جاءها جبريل  وخاطبها، قالت له: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيًّا [سورة مريم:18] فأخبرها أنه رسول من الله : إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا [سورة مريم:19].

على كل حال فالقول بأنه نبي لا يوجد ما يدل عليه دلالة قاطعة، والآية تحتمل هذا، والنبوة لا تثبت بالاحتمال، والعلم عند الله .

وأما ما يذكر من حياته، أو من أنه وجد منذ آدم ﷺ، يعني: من ولد آدم وبقي حتى يكذب الدجال، فهذا لا دليل عليه، وكل ما يذكر من أنه باق، وأنه موجود فكل هذا من الخزعبلات التي لا أساس لها، وهي التي تعلق بها كثير من الصوفية، وبنوا عليها كثيراً من الأوهام والأكاذيب والترّهات، ومما يدل على أنه غير موجود أن النبي ﷺ أخبر أنه لا يبقى على رأس المائة ممن هو على ظهر الأرض أحد، فلو كان الخضر موجوداً لمات على رأس المائة.

روى البخاري[2] عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: إن نوفاً البكالي يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس هو موسى صاحب بني إسرائيل، قال ابن عباس: كذب عدو الله، حدثنا أبيّ بن كعب أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل فسئل: أي الناس أعلم ؟ قال: أنا، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه، فأوحى الله إليه إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى: يا رب وكيف لي به ؟ قال: تأخذ معك حوتاً فتجعله بمِكتل، فحيثما فقدت الحوت فهو ثمه، فأخذ حوتاً فجعله بمكتل، ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون  حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رءوسهما فناما، واضطرب الحوت في المِكتل، فخرج منه فسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا .

فهذه الرواية في صحيح البخاري وقد جاءت روايات متعددة في خبر موسى مع الخضر تبين السبب الذي من أجله ذهب موسى يطلبه، وكذلك هي تبين أن الذي وقع له ذلك هو موسى النبي المعروف الكريم وليس برجل آخر يسمى بهذا الاسم كما يزعم بعض الإسرائيليين.

وقوله: فخرج منه فسقط في البحر، فاتخذ سبيله في البحر سربا، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء فصار عليه مثل الطاق، أي: يعني مثل الكوة التي تكون في الجدار، مثل النفق، أو السرب، فبقي الماء ثابتاً وصار مكان دخول الحوت كالجحر، يُشاهَد ويُعرَف مكان الدخول.

قوله: فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه: آتِنَا غَدَاءنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا.

لم يجد موسى النَّصَب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به، ولهذا قال بعض أهل التفسير: لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا يعني: الذي كان بعد الاستراحة، ولم يجد هذا النصَب في أول سفره.

ولم يجد موسى النَّصَب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به، قال له فتاه: أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً، قال: فكان للحوت سرباً، ولموسى وفتاه عجباً، فقال: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً.

قوله : فكان للحوت سرباً، ولموسى وفتاه عجباً، وهذا يدل على أن قوله: وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً يحتمل أن يكون هذا من الموصول لفظا المفصول معنى، يعني قوله: وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً من كلام يوشع .

ويحتمل أن يكون المعنى وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ [سورة الكهف:63]، وانتهى وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً من كلام الله.

فقال: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً [سورة الكهف: 64] قال: فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة، فإذا رجل مسجّى بثوب، فسلم عليه موسى فقال الخضرُ: وأنَّى بأرضك السلام! فقال: أنا موسى، فقال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، قال أتيتك لتعلمني مما عُلمت رشداً، قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً [سورة الكهف:67]، يا موسى، إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه، فقال موسى:  سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً [سورة الكهف: 69].

قوله: يا موسى، إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه هذا من الأدلة على أن الخضر كان نبيا، وهذا القول نسبه بعضهم للجمهور، وعلى كل حال المسألة فيها خلاف بين أهل العلم، ولكن النبوة لا تثبت بالاحتمال.

قال له الخضر: فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت سفينة، فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر فحملوهم بغير نَوْل (بغير نوْل يعني بغير أجرة) فحملوهم بغير نَول، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلا والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم (القدوم يعني الآلة المعروفة، لازلنا نسميها قدوماً).

فقال له موسى: قد حملونا بغير نَوْل فعمدتَ إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها؟ لقد جئت شيئاً إمراً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً ۝ قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً، قال: وقال رسول الله ﷺ: فكانت الأولى من موسى نسياناً.

قوله : فكانت الأولى من موسى نسياناً يرد على قول طائفة من المفسرين أن موسى قال: لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ اعتراضاً عليه بمعنى أنه يقول: ما نسيت، يعني: بما تركتُ من موافقتك، فإن النسيان يأتي كما هو معروف لمعنيين:

المعنى الأول: الذهول عن المعلوم.

المعنى الثاني: الذي هو الترك نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ [سورة الحشر:19]، كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا [سورة طـه:126]، يعني: تركتها، فالنسيان يأتي بمعنى الترك، فبعض المفسرين يقول: إنه قال له: لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ [سورة الكهف:73] يعني: بما تركتُ من موافقتك وعارضتك به، فلا تؤاخذني به، مع أن هذا القول يخالف ما حصل الاتفاق عليه في أول الأمر فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا [سورة الكهف:70]، وقال له: سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [سورة الكهف:69]، فكيف يقول له فيما بعد: لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ، يعني: لا تؤاخذني بما تركت من طاعتك وعدم معارضتك؟، فهذا بعيد، بل هو غير صحيح، ويدل على أنه غير صحيح، ما جاء في الحديث هنا: فكانت الأولى من موسى نسياناً.

قال: وجاء عصفور فوقع على حرف السفينة، فنقر في البحر نقرة أو نقرتين فقال له الخضر: ما علمي وعلمك في علم الله إلا مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر، ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان، فأخذ الخضر رأسه فاقتلعه بيده فقتله.

قوله: إذ أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان، هذا يرد على قول من قال من المفسرين بأن الغلام المقصود به رجل كبير، ومن المعلوم أن الغلام في لغة العرب قد يطلق على الكبير لسبب من الأسباب: إما لضعف عقله فيكون مثل الغلام، أو لضعف شأنه كأن يكون خادماً، يقال: غلام لبني النجار، غلام لبني فلان، وقد يقال له ذلك تحقيراً لشأنه، كما قال النبي ﷺ: هلاك أمتي على يد أُغيلمة من قريش[3]، فهم ليسوا أطفالاً، وقد ذهب طائفة من أهل العلم في تفسير هذا الحديث إلى أنهم يزيد بن معاوية وأمثاله.

فالشاهد أن الغلام يطلق على الكبير أحياناً لسبب من الأسباب، والذي حمل من قال إن الغلام الذي قتله الخضر كان كبيرا أنه كيف يقتل هذا الغلام البريء ولم يصدر منه ما يوجب القتل، فقالوا: الغلام هو الكبير، أي أنه رجل فسماه غلاماً، لكن هذا بعيد من وجهين:

الأول: أنه قال في الحديث: وجد غلاماً يلعب مع الغلمان فهذه قرينة واضحة تدل على أنه صبي.

الثاني: أنه قال له: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا  [سورة الكهف:74]، والنفس الزكية أي: الطاهرة من الذنوب.

وقال بعض أهل العلم: إن الغلام يطلق على ما قبل البلوغ، يعني ما لم يبلغ يقال له غلام، فمن كان مميزاً فإنه يكون مكلفاً بالإيمان والتوحيد دون تفاصيل الشريعة، لكن يكون مكلفاً بالتوحيد؛ لأنه يميز، وقالوا: إنه إذا وقع منه ردة – أي من المميز - فإنه يحكم عليه بمقتضى ذلك، ولا يعاقب بالقتل، لكن يزجر فيمكن أن يعزر، وقد قال النبي ﷺ: واضربوهم عليها لعشر[4]، فيضرب على ترك الصلاة، فكيف بما هو أعظم من ذلك، فلو أنه صرح بالكفر أو بسب الله ، أو بنحو ذلك، أو قال: إنه يهودي أو نصراني، فبعض أهل العلم يقول: هو مكلف بالتوحيد فوقع عليه ما وقع من الخضر، فلم يبلغ الغلام، ولكنه مكلف بالتوحيد.

وقال بعض أهل العلم: إنه ليس مكلفاً في شريعتنا، ولكن قد يكون التكليف في شرع من قبلنا بالتمييز، وهذه المسألة تتعلق بقضية وهي: هل يجوز للقاضي أن يحكم بعلمه أو لا؟.

وقد تقدمت هذه المسألة في درس عمدة الأحكام في الكلام على حديث أبي سفيان لما قالت هند – ا – : إن أبا سفيان رجل شحيح.[5]، فالنبي ﷺ لم يستفصل منه، ولم يسأله، ولم يطالب بالبينة.

وقد جاء عند البخاري من حديث أم سلمة - ا -: أن رسول الله ﷺ قال: إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع فمن قضيتُ له بحق أخيه شيئا فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار [6].

ولهذا لما جاء نافع بن الأزرق - وهو من كبار الخوارج - وسأل ابن عباس – ا - عن قتل الغلمان، فقال له ابن عباس: إن كنت كالخضر تعلم المؤمن من الكافر فاقتله.

فقال له موسى: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا ۝ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا [سورة الكهف:74-75]، قال: وهذه أشد من الأولى، قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي [سورة الكهف:76].

أشد من الأولى باعتبار الزيادة؛ لأن زيادة المبنى بزيادة المعنى، ففي الأولى قال له:  أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [سورة الكهف:72]، وفي الثانية قال له: أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا  [سورة الكهف:75]، فهذا فيه زيادة في المعاتبة.

قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً ۝ فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ [سورة الكهف:76- 77]، أي: مائلاً، فقال الخضر بيده فَأَقَامَهُ، فقال موسى: قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا، لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً.

قوله: فقال الخضر بيده فأقامه، هذه الأشياء يحتاج إليها؛ لأن المفسرين منهم من يقول: هدمه ثم بناه، وبعضهم يقول: قال به بيده فكان ذلك على سبيل الأمر الخارق للعادة، أي: أمر معجز، وكرامة من الله للخضر بدون هدم الجدار المائل؛ لأنه لا يمكن أن يقام الجدار المائل باليد بدون هدم.

ولا نستشكل كلمة "قال"؛ لأن "قال" لا تأتي بمعنى القول فقط باللسان، وإنما تأتي بحركة طرف من أطراف الإنسان، كأن تقول: قال بيده، وقال بثوبه، وقال برجله، وقال برأسه، وقال بالسيف.

ولما ذكر ابن جرير - رحمه الله - القولين، قال: وجائز أن يكون  كذا وجائز أن يكون كذا، كأنه يقول: ليس عندنا ما يدل على أنه هدمه ثم بناه، أو أنه أقامه بيده، كل هذا احتمال، لكن هذا الحديث يدل على أنه لم يهدمه، والقضية قد لا تكون ذات أهمية كبيرة، لكن فيها فائدتان:

الفائدة الأولى: كيف نتبين ضعف بعض الأقوال؟ فقد كانت مخالفة للحديث.

الفائدة الثانية: أن هذا أيضاً فيه معجزة، وخوارق عادات من الممكن أن يحتج بها من يقول: إنه نبي، فضلاً عن كونه عرف أصلاً أن هذا تحته كنز، وخوارق العادات لا تختص بالأنبياء كما هو معروف، واصطلاح المتأخرين على تسمية ما وقع من ذلك للأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- بالمعجزات، وما وقع لأتباعهم بكرامات الأولياء، وكل ذلك في لغة الكتاب والسنة يقال له الآيات، والبينات، وآيات الأنبياء، والسلف يقولون: آيات الأنبياء، ويعبر عنه بدلائل النبوة، ثم صار المتأخرون يفرقون ولا مشاحّة في الاصطلاح، فما وقع لنبي فهو معجزة وما وقع لتابع نبي فهو كرامة، وكرامات الأولياء معجزات للأنبياء.

قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا [سورة الكهف:78]، فقال رسول الله ﷺ: وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما.

قال سعيد بن جبير : كان ابن عباس - ا - يقرأ: وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً، وكان يقرأ: وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنيْن.

 

هذه القراءات توضح إشكالاً، فمن قرأ لأول وهلة قوله – تبارك وتعالى -: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا [سورة الكهف: 79]، فقد يقول: وما أثر عيب السفينة فيما ذكر، فالملك سيأخذ السفينة غصبا، سواء كانت صالحة أو معيبة، فهذه القراءة تبين المراد أنه لم يكن يأخذ المعيبة وإنما يأخذ الصالحة فقط، ومن خلال القراءة المتواترة لا يتبين هذا المعنى، فيُرَدّ السؤال والإشكال بقراءة ابن عباس - ا -.

قوله: فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا [سورة الكهف:80]، يعني: أنه طُبع كافراً، وقال بعض أهل العلم: إن الإنسان يكون مكلفا بالتوحيد قبل البلوغ، وهذا الغلام كان كافرا بالتوحيد.

ثم رواه البخاري[7] نحوه وفيه: فخرج موسى ومعه فتاه يوشع بن نون ومعهما الحوت، حتى انتهيا إلى الصخرة فنزلا عندها، قال: فوضع موسى رأسه فنام، قال: وفي أصل الصخرة عين يقال لها الحياة لا يصيب من مائها شيء إلا حيي، فأصاب الحوت من ماء تلك العين، فتحرك وانسل من المكتل فدخل البحر، فلما استيقظ قال موسى لفتاه: آتِنَا غَدَاءَنَا، قال: وساق الحديث، ووقع عصفور على حرف السفينة، فغمس منقاره في البحر، فقال الخضر لموسى: ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلا مقدار ما غمس هذا العصفور منقاره وذكر تمامه بنحوه.

حرف الشيء أي طرفه، فحرف السفينة طرفها.

  1. أخرجه البخاري في كتاب أحاديث الأنبياء، باب حديث الخضر مع موسى - عليهما السلام - ( 4/ 156- 3402).
  2. رواه البخاري، كتاب الأنبياء، باب حديث الخضر مع موسى - عليهما السلام - (3/1246)، برقم: (3220).
  3. رواه البخاري، كتاب المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام (3 / 1319)، برقم: (3410).
  4. رواه أحمد (11/369)، برقم: (6756)، وهو حديث حسن.
  5. رواه البخاري، كتاب النفقات، باب إذا لم ينفق الرجل فللمرأة أن تأخذ بغير علمه ما يكفيها وولدها من معروف (5/2052)، برقم: (5049)، ومسلم، كتاب الأقضية، باب قضية هند (3/1338)، برقم: (1714).
  6. رواه البخاري، كتاب الأحكام، باب موعظة الإمام للخصوم (6 /2622)، برقم (6748).
  7. رواه البخاري، كتاب التفسير، سورة الكهف (4/1757)،  برقم: (4450).