الأحد 06 / ذو القعدة / 1446 - 04 / مايو 2025
وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِۦ خُبْرًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا ۝ قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا ۝ وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا ۝ قَالَ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا ۝ قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَن شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا [سورة الكهف:66-70]، يخبر تعالى عن قيل موسى لذلك الرجل العالم وهو الخضر، الذي خصه الله بعلم لم يطلع عليه موسى، كما أنه أعطى موسى من العلم ما لم يعطه الخضر، قَالَ لَهُ مُوسَىَ هَلْ أَتّبِعُكَ، سؤال تلطف لا على وجه الإلزام والإجبار، وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم، وقوله: أَتّبِعُكَ، أي: أصحبك وأرافقك، عَلَىَ أَن تُعَلّمَنِ مِمّا عُلّمْتَ رُشْداً، أي: مما علمك الله شيئاً أسترشد به في أمري من علم نافع وعمل صالح، فعندها قَالَ الخضر لموسى: إِنّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً، أي: إنك لا تقدر على مصاحبتي لما ترى مني من الأفعال التي تخالف شريعتك؛ لأني على علم من علم الله ما علمكه الله، وأنت على علم من علم الله ما علمنيه الله، فكل منا مكلف بأمور من الله دون صاحبه وأنت لا تقدر على صحبتي، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىَ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً، فأنا أعرف أنك ستنكر علي ما أنت معذور فيه، ولكن ما اطلعتَ على حكمته ومصلحته الباطنة التي اطلعتُ أنا عليها دونك.

وجه التلطف الذي أشار إليه ابن كثير - رحمه الله - أنه جاء بأسلوب العرض قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [سورة الكهف:66]، فلم يقل علمْنِي، وهذا من الأدب الكامل، ومن أدب الأنبياء ونظائره في القرآن موجودة، فلو تتبعت أخبار الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام – وما قصه الله علينا من قصصهم تجد أشياء من الأدب الجم الرفيع، بخلاف أولئك الذين جاءوا إلى داود  إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ [سورة ص:21] فلم يدخلوا من الباب وإنما تسوروا في وقت خلوته وعبادته، فأفزعوه وأخافوه، ولم يكتفوا بهذا بل قالوا له: خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاء الصِّرَاطِ [سورة ص:22] بأسلوب الأمر فَاحْكُم بَيْنَنَا بِالْحَقِّ، ولم يكتفوا بهذا – أيضاً - بل قالوا: وَلَا تُشْطِطْ فكأنهم يلقنونه ويعلمونه كيف يحكم وهو ملك ونبي، فلا دخول بوجه صحيح، ولا أسلوب صحيح.

قوله – تبارك وتعالى -: إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [سورة الكهف:67]، أي: لا تقدر على مصاحبتي لما ترى مني من الأفعال التي تخالف شريعتك.

وقد أقامت الصوفية هذه القضية وأقعدتها، وملئوا الدواوين في الكلام على العلم اللدنّي، وأن من وصل إلى العلم اللدني والمعرفة ونحو ذلك فإنه يستغني عن الشريعة، فإن الشرائع لأهل الظواهر وهم الذين لم ينكشف عنهم الحجاب فيخاطبون بهذا، وقد جاءوا بهذا القول من الفلاسفة الذين يقولون: إن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - إنما جاءوا بهذه الأشياء التي جاءوا بها من أجل ضبط الناس؛ لأن العوام مثل البهائم لا يحصل لهم الانضباط إلا بالترغيب والترهيب، فهم لا يعتقدون صدق نبوة الأنبياء، ويعتقدون أن هذا لا حقيقة له، فتأثر من تأثر بذلك من أهل التصوف، ومعروف أن أهل التصوف على فريقين: منهم ما يُعرف بالتصوف الفلسفي أمثال ابن سبعين، والحلاج، والطائفة الذين هم الصوفية أهل السلوك فقط الذي يسمون بأصحاب التفسير الإشاري والتصوف العملي.

فالشاهد أن الصوفية يقولون لنا : تأخذون علمكم عن ميت عن ميت، حدثنا فلان عن فلان عن فلان، أما نحن فنأخذ علمنا عن الحي الذي لا يموت مباشرة، ولهذا كانوا يتقللون من الطعام ويُجوّعون أنفسهم من أجل الصفاء، فإذا حصل له هذا – بزعمهم - خلوة وانقطاع عن الناس مع الجوع والذكر حصل له الكشف، فتكشف له، ولهذا يأتون بأشياء ويصدقون أشياء من العجائب والغرائب، يقول لك: أهل الظاهر يحجبهم الحجاب الكثيف الغليظ لما على قلوبهم من الأدناس والأدران بحيث لا يرون الحقائق كما هي، ولذلك يقوم واحد من كبارهم ومن معظميهم أمثال ابن عربي يوم الجمعة في المسجد ويرفع ثوبه، ويخرج عورته، ويبول أمام الناس في المسجد ثم يخرج، فإذا أنكر ذلك منكر قالوا له: أنت تنكر ماذا ؟ أنت تنكر فيما يظهر لك أنه يبول لكن في باطن الأمر ليس كذلك، وكان بعضهم كما هو معروف يقع على البهيمة في الشارع ويفجر بالحمار، ويقولون: هو في الظاهر يتراءى أمامك الآن أنه يفجر بالحمار، لكنه في الواقع ليس كذلك، فأفسدوا فساداً عظيماً، ودخلت الباطنية وجاءوا بما هو أدهى وأمر، وفسروا الشريعة بأمور من الرموز والأشياء التي ما أنزل الله بها من سلطان هي غاية الكفر والضلال وقالوا: إن الظواهر - ظواهر النصوص - هذه للعامة، والبواطن لأهل الحقيقة، فصارهناك أهل حقيقة، وأهل شريعة.

فالشاهد أن الصوفية قالوا: هذا علم لدنّي لم يتفق مع شريعة موسى فشريعة موسى تحكم بالظواهر، والخضر عنده علم الباطن وعلم الحقيقة، فهم يقولون: نحن عندنا من علم الحقيقة ما ليس عند أهل الشريعة، فالفقهاء هم أهل الشريعة يحكمون على أفعال الناس: صلاة هذا صحت، طهارته، وهذا لم تصح صلاته، أما نحن عندنا علم الحقيقة، هذا زعمهم وقولهم الباطل، ولهذا بعض الغلاة منهم يصل به الأمر إلى ترك الصلاة والتكاليف باعتبار أنه وصل إلى مرحلة تسقط عنه هذه الأحكام الشرعية؛ لأنه إنما جيء بها من أجل هؤلاء العامة لما يحول بينهم وبين المعرفة والحقيقة من الحجب الكثيفة الغليظة، فإذا حصل الصفاء حصل الكشف.

فهذه أشياء تلقيت من النصارى، والنصارى تأثروا بها من فلاسفة، وأشياء أخذوها من أهل بعض الديانات الشرقية في الهند.

يذكر في ترجمة بوذا، ويزعم أتباعه أنه كان يأكل في اليوم حبة واحدة من الأرز فقط من أجل أن يحصل له الصفاء، والكشف والمعرفة، يقولون: كان يمشي وجلس تحت شجرة وبينما هو كذلك إذ كشف له عن الحقيقة، وهذا الكلام مثل كلام الصوفية.

وهذه الأشياء في الواقع قد تحصل له لكن ليست هي الكشف الذي يقولون وإنما لون من الهلوسة والخيالات، ومعروف عند الأطباء أن شدة الجوع، أو الذي يُجوّع نفسه، أو الذين يعملون رجيماً حاداً يحصل لهم من الخيالات الشيء الغريب الهائل، حتى لربما يحصل لهم خوف وقلق وانزعاج، ويتبدى لهم أمور أنهم لربما في خطر، أو يواجهون أموراً لا يدري الواحد منهم ما هي، أو أنه سيموت وأن حياته مهددة، يشعر هكذا بانزعاج وقلق وخوف، وقد رأيت بعض هؤلاء بشكل مذهل مما يعيشه من الخيالات والمخاوف التي لا حقيقة لها، والسبب هو الجوع والرجيم.