ثم أخبر تعالى أنه جعل الدنيا داراً فانية مزينة بزينة زائلة، وإنما جعلها دار اختبار لا دار قرار فقال: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [سورة الكهف:7]، قال قتادة عن أبي نضرة عن أبي سعيد عن رسول الله ﷺ أنه قال: إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء[1]، ثم أخبر تعالى بزوالها وفنائها وفراغها وانقضائها وذهابها وخرابها فقال تعالى: وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا [سورة الكهف:8]، أي: وإنا لمصيّروها بعد الزينة إلى الخراب والدمار، فنجعل كل شيء عليها هالكا صعيدا جرزا لا ينبت ولا ينتفع به، كما قال العوفي عن ابن عباس - ا - في قوله تعالى: وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا [سورة الكهف:8]، يقول: يهلك كل شيء عليها ويبيد وقال مجاهد: صعيدا جرزا بلقعا، وقال قتادة: الصعيد: الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات.
قوله تعالى: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [سورة الكهف:7]، "ما" هذه تفيد العموم، ولهذا حمله بعض أهل العلم على أعم معانيه، قال: حتى الحيات هي زينة للأرض، ولكن على كل حال يفهم من السياق إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا، يعني: مما يستهوي الناس ويجذبهم وتمتد إليه نفوسهم، ويغرهم وما يشغلهم عن آخرتهم، فهذا كله جعله الله زينة للأرض، كالنبات وما يوجد أيضاً في الأرض، ما يوجد عليها من الأمور التي يقبل عليها الناس وتهواها نفوسهم، كل ذلك، ويدخل فيه العمران وألوان الصناعات، والتجارات والمكاسب، وغير ذلك، ويدخل فيه الأنهار الجارية، والعيون وألوان الثمار وغير ذلك، فكل هذه الأشياء هي زينة لها، ثم بعد ذلك تكون بلقعا.
قوله: وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا [سورة الكهف:8] كل ما تعبوا وبذلوا فيها، ثمروها وعمروها، وكل المعاني التي ذكرها السلف في الصعيد الجرز متقاربة، فحينما نقول - مثلاً - بأنها مستوية لا نبات فيها، أو حينما تكون خراباً ودماراً، أو هالكاً، أو لا ينبت، لا ينتفع به، يبيد، الأرض التي لا شجر فيها ولا نبات، كل هذا بمعنى مستوية، يسويها الله ، كل ما عليها مما يتهافت عليه الناس هذا كله يستوي بالأرض، وينتهي ويتلاشى، والله يرينا الآيات لكننا لا نعتبر، فأين ما بناه الأولون؟ أين ما بناه النمرود؟ وأين ما بنته عاد؟ أين الذي بنته إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد؟ أين ما بنوه أين ما شيدوه ؟ كل هذا ينتهي ويتلاشى، أين بيوتهم؟ أين مراكبهم؟ أين صناعاتهم؟ أين تجاراتهم؟ أين الأمور التي تنافسوا عليها؟ كلها قد انمحت واضمحلت، وهذه الفلوات الصحارى هل تظنونها كانت صحارى من أول ما خلق الله الدنيا إلى اليوم ؟ قد تكون أمم عمرتها، ثم أفناها الله وجعلها كما ترون، مستوية لا ترى فيها شيئاً يدل على قوم سكنوها واستوطنوها.
وقد يزعم بعض الناس أن ما يُرى في الصحارى من بعض النخيل المتفرقة هنا وهناك أنها كانت وديان ومزارع عامرة ثم صارت صحراء، فإن كان ذلك كما قيل - ولا يبعد - فأين هم؟ وأين آثارهم؟ وأين موانيهم؟ وأين مراكبهم البحرية والبرية؟، كل ذلك قد انقشع وذهب وتلاشى ولا يبقى له أثر، وترون بعض من يولع بمثل هذه الأمور يبذلون الأموال الطائلة علَّهم يجدون جرَّة مكسورة، أو قطعة تدل على آثار أولئك القوم بعد جهد جهيد وحفر وعناء لربما يجدون جدارًا أو نحو هذا قد انطمر وغُطِّي بالتراب.
فهذه نراها حيناً بعد حين ولا نعتبر بها، ولكن في النهاية كل ما على الأرض إلى زوال واضمحلال، وتبقى الأرض مستوية لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا.
وقوله: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [سورة الكهف:7]، بعض أهل العلم يقول: "أيهم" مرفوع على الابتداء، ولفظه لفظ الاستفهام، أي: نختبرهم أيهم أحسن عملاً وأيهم أسوء عملاً كذلك، فأخبر - تبارك وتعالى - أنه جعل ما على الأرض زينة ليختبر الناس أيهم أحسن عملا، فهل يقبلون عليها ويغفلون عن الله وعن الدار الآخرة؟، هل تستهويهم هذه الزينة ؟ أو أنهم يقبلون على ما هم بصدده؟، الآية الآخرة في سورة تبارك: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [سورة الملك:2]، ولاحظ في الآيتين أن الله - تبارك وتعالى - ذكر أمراً متحداً وهو أنه خلق ذلك من أجل الابتلاء من جهة حسن العمل، هذا المقصود الأكبر، والمطلوب الأعظم الذي من أجله يتنافس المتنافسون، فليست العبرة بكثرة العمل وإنما بإحسان العمل، والله المستعان.
- رواه مسلم، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب أكثر أهل الجنة الفقراء وأكثر أهل النار النساء وبيان الفتنة (4 / 2098)، برقم: (2742).