قال المصنف - رحمه الله - في تفسير قوله تعالى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [سورة الكهف:9-12].
هذا إخبار من الله تعالى عن قصة أصحاب الكهف على سبيل الإجمال والاختصار، ثم بسطها بعد ذلك فقال: أَمْ حَسِبْتَ [سورة الكهف:9] يعني: يا محمد أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا [سورة الكهف:9] أي: ليس أمرهم عجيباً في قدرتنا وسلطاننا، فإنّ خلْق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار وتسخير الشمس والقمر والكواكب وغير ذلك من الآيات العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى، وأنه على ما يشاء قادر، ولا يعجزه شيء أعجبُ من أخبار أصحاب الكهف، كما قال ابن جريج عن مجاهد: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا [سورة الكهف:9] يقول: قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك.
وقال العوفي عن ابن عباس - ا -: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا [سورة الكهف:9] يقول: الذي آتيتك من العلم والسنة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم.
وقال محمد بن إسحاق: ما أظهرت من حججي على العباد أعجبُ من شأن أصحاب الكهف والرقيم.
وأما الكهف: فهو الغار في الجبل، وهو الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية المذكورون.
وأما الرقيم، فقال العوفي عن ابن عباس - ا -: هو وادٍ قريب من أيلة.
وكذا قال عطية العوفي وقتادة.
وقال الضحاك: أما الكهف فهو غار في الوادي، والرقيم اسم الوادي.
وقال مجاهد: الرقيم كان بنيانهم.
ويقول بعضهم: هو الوادي الذي فيه كهفهم.
وروى عبد الرزاق عن ابن عباس - ا - في قوله: وَالرَّقِيمِ [سورة الكهف:9] قال: يزعم كعب أنها القرية.
وقال ابن جريج عن ابن عباس: الرقيم الجبل الذي فيه الكهف.
وقال سعيد بن جبير: الرقيم لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف، ثم وضعوه على باب الكهف.
وقوله: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [سورة الكهف:10] يخبر تعالى عن أولئك الفتية الذين فروا بدينهم من قومهم؛ لئلا يفتنوهم عنه، فَهَرَبوا منهم، فَلَجَئُوا إلى غار في جبل ليختفوا عن قومهم، فقالوا حين دخلوا - سائلين من الله تعالى رحمته ولطفه بهم -: رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً [سورة الكهف:10] أي: هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها، وتسترنا عن قومنا، وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [سورة الكهف:10] أي: وقدِّر لنا من أمرنا هذا رشداً، أي: اجعل عاقبتنا رشدًا، كما جاء في الحديث: وما قضيتَ لنا من قضاء فاجعل عاقبته رشدًا[1].
وقوله: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا [سورة الكهف:11] أي: ألقينا عليهم النوم حين دخلوا إلى الكهف، فناموا سنين كثيرة ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ [سورة الكهف:12] أي: من رقدتهم تلك، وخرج أحدهم بدراهم معه ليشتري لهم بها طعامًا يأكلونه، كما سيأتي بيانه وتفصيله؛ ولهذا قال: ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ [سورة الكهف:12] أي: المختلفيْن فيهم أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [سورة الكهف:12] قيل: عددًا، وقيل: غاية، فإن الأمد الغاية كقوله:
"سَبْقَ الجَوَادِ إذَا اسْتَولى على الأمَد"[2].
فقوله - تبارك وتعالى -: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ [سورة الكهف:9] (أم) هذه هي التي يفسرونها بالمنقطعة، وقد مر نظائرها، (أم) المنقطعة هذه مقدرة بـ(بل) والهمزة، أي بل أحسبت أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا من آياتنا عجباً، وعجباً هذه منصوبة على الحال، أو أنها خبر (كان).
يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -:
أي ليس خبرهم عجيباً في قدرتنا وسلطاننا، فإن خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار، وتسخير الشمس والقمر والكواكب وغير ذلك من الآيات العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى، وأنه على ما يشاء قادر ولا يعجزه شيء، أعجب من أخبار أصحاب الكهف.
يقول: قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك، يعني أن قصتهم وإن كانت خارقة للعادة بهذا النوم الطويل إلا أن آياتنا كلها عجيبة، وفي هذا الآيات ما هو أعجب من قصة أصحاب الكهف ومن هذا النوم، وذلك أن خلق هذه السماوات والأرض وما يوجد فيهما من المخلوقات، وما وجدت عليه من الدقة العجيبة، وهذا الخلق الهائل، وهذا النظام الدقيق الذي تسير فيه هذه الأفلاك، وما إلى ذلك، كل ذلك من الأمور العظيمة التي هي أعظم من نومٍ وقع لهؤلاء الفتية في هذه المدة الطويلة.
بل إن خلقهم - خلق الإنسان - أعجب من هذا، أعجب من هذه النومة التي ضربها الله عليهم، هذا الإنسان وما فيه من قدرة على عقل الأشياء وفهمها، وما يتصف به من السمع والبصر، وما يختزنه من ألوان المشاعر، وما فيه من الأعضاء والأبعاض التي تعمل بنظام في غاية التعقيد والدقة أعجب من نوم هؤلاء هذه المدة الطويلة، لكن الإنسان لا يدرك كثيراً من هذه الأشياء تارة، وما يتصل بها من وظائف وعمل، أو أنه ربما ألف الشيء حتى صار ذلك لا يحرك شيئاً في كوامنه وفي نفسه، طلوع الشمس من مشرقها، وغروبها من المغرب، وظهور النجوم في الليل، والقمر كذلك، كل هذه أشياء عجيبة، ولكن الإلف هو الذي يجعل الإنسان بهذه المثابة، لو أن أحداً من الناس حُبس منذ أن ولد لم ير شمساً ولا قمراً بمكان، في نفق من الأرض، أو في قبو أو نحو ذلك، وما رأى شيئاً إطلاقاً، ثم بعد ذلك لما أدرك أُخرج فإنه سيبقى مندهشاً مذهولاً حينما يشاهد هذه الشمس وهي تشرق، ثم لم يزل يشاهدها ويرقبها في ارتفاعها إلى أن تغرب، فإذا ظهرت النجوم وأقبل الظلام فإن عجبه لا ينقضي بحال من الأحوال، فينظر إلى هذه السماء وما فيها من العجائب والغرائب، والقمر وما إلى ذلك مما يؤثر فيه غاية التأثير، فإذا رأى الجبال أو رأى البحر فإن ذلك أيضاً يكون محركاً للتفكر والاعتبار، وتعظيم الله في نفسه، لكن حينما يألف الإنسان الشيء لا يؤثر ذلك فيه.
فالشاهد أن آيات الله كلها عجيبة، وهذا وإن كان من آيات الله إلا أن آياته كلها عجب، وهذا المعنى الذي ذكره الحافظ ابن كثير في تفسير هذا القدر من الآية: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ [سورة الكهف:9] وهو الذي فسرها به أيضاً ابن جرير - رحمه الله - والشنقيطي من المعاصرين.
وقوله: "وأما الكهف: فهو الغار في الجبل، وهو الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية" هذا تقريب للمعنى وإلا فإن الكهف يقال للغار الواسع، الغار إذا كان متسعاً فإنه يقال له: كهف، وإذا كان ضيقاً يقال له: غار، هذا الفرق بين الكهف والغار.
فعلى كل حال الكهف معروف، فهو غار متسع، ولكن أين يقع هذا الكهف؟ نحن لم نقف على هذا ولا نعلم، ولا يعنينا ذلك، ولا نستفيد منه، وما اشتغل به كثيرون قديماً وحديثاً من محاولة تحديد هذا المكان، وعمل قياسات لأشعة الشمس لبعض الأماكن، وأن ذلك ينطبق على المحل المعين، كل هذا مما لا فائدة فيه، إنما العبرة في ما تضمنه هذا الخبر من بيان قدرة الله ، وكذلك أيضاً ما يتصل بقضية الإيمان من وجوه متعددة، فالعبرة بهذا، وهو الذي ينبغي أن يكون محل العناية لا مكان الكهف، أو عدد هؤلاء الفتية، أو لون الكلب، واسم الكلب، وما أشبه ذلك.
يقول: "وأما الرقيم فقال العوفي عن ابن عباس: هو وادٍ قريب من أيلة، وبعضهم يقول: الرقيم كان بنيانهم، ويقول بعضهم: هو الوادي الذي فيه كهفهم" الذي يظهر أن الذي قال بهذا ربما يقصد العمران أو القرية التي كانوا فيها، وهذا قول لبعض السلف، وربما يقصد بذلك ما جاء في قوله - تبارك وتعالى -: ابْنُوا عَلَيْهِم بُنْيَانًا رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ [سورة الكهف:21] وهذا البنيان ما هو وما طبيعته ؟ الله تعالى أعلم، ولكن من السلف من قال: إن المقصود بالرقيم هو شيء كتب فيه كتابة تتعلق بهم، بعضهم يقول: كُتب فيه أسماؤهم، وبعضهم يقول: كتب فيه خبرهم وقصتهم، وهذا المعنى رجحه ابن جرير وكذلك الشنقيطي، باعتبار الرجوع إلى أصل المادة.
أما الروايات الإسرائيلية فتقول: إن هذا اسم كلب لهؤلاء، أو أنه اسم القرية، أو اسم الوادي أو نحو ذلك، وكل هذا لا دليل عليه، ولا يعتمد عليه، ولم يرد عن النبي ﷺ شيء في ذلك يمكن أن يعول عليه، فيرجع بعد ذلك إلى أصل المعنى اللغوي للرقيم، فالرقم هو الكتابة، إلا رقْماً في ثوب[3] فهذا أصل الرقم.
يقول: عن ابن عباس في قوله: الرقيم: كان يزعم كعب – يعني كعب الأحبار - أنها القرية، ويقصد القرية التي ليس فيها الكهف، وإنما القرية التي خرجوا منها، قرية هؤلاء الفتية، وبعضهم يقول: الجبل الذي فيه الكهف، ومن أهل العلم من يستبعد هذا.
وبعضهم يقول: لوح من حجارة أو رصاص كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف وأسماءهم.
ولاحظوا هذه الأقوال المختلفة، فمن قائل: إنه اسم الكلب، ومن قائل: إنه اسم القرية أو اسم الجبل أو لوح، وكل هذا في غاية الاختلاف والتباين، والسبب أن الاعتماد فيه على الروايات الإسرائيلية، وهذه الروايات الإسرائيلية مليئة بالتحريف والكذب، والله يقول: وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ [سورة الإسراء:36] كيف يكون الرقيم؟ قائل يقول: إنه اسم الكلب، وقائل يقول: إنه اسم الوادي أو أنه لوح كتب فيه كذا وكذا، هذه الأقوال لا يمكن أن تتفق، ولا يمكن أن يجمع بينها ويقال: والله الرقيم يصدق على ذلك كله، وأن الكلب اسمه الرقيم، والوادي اسمه الرقيم والجبل كذلك، هذا ما يمكن، وهذا كثير فيما وجد من المرويات الإسرائيلية، والسبب في ذلك أنها محرفة.
يقول: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا [سورة الكهف:10-11].
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ [سورة الكهف:11] التعبير بالضرب يشعر أو يدل على شدة اللصوق والعلوق، ووقوع ذلك عليهم، وعلى تمكنه منهم، كما قال الله : ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ [سورة آل عمران:112].
فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا [سورة الكهف:11] قال: أي: ألقينا عليهم النوم حين دخلوا إلى الكهف، فناموا سنين كثيرة، ضرب عليهم النوم، وهذا النوم تمكن منهم غاية التمكن، حتى حال بينهم وبين سماع الأصوات فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا [سورة الكهف:11] ما عادوا يسمعون شيئاً، صاروا مستغرقين في نومهم حتى صاروا لا يسمعون فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا [سورة الكهف:11] والسنين هنا منصوبة على الظرفية، وذكر العدد سِنِينَ عَدَدًا ليدل على الكثرة، وذلك أن القليل لا يحتاج إلى عد، وإنما الذي يحتاج إلى عد وحساب هو الكثير من الأشياء.
والله قد بيّن هذه المدة: أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة، وازدادوا تسع سنين، وهذا لا يكون إلا بمعجزة، وأمر خارق للعادة، قال: أي ألقينا عليهم النوم حين دخلوا إلى الكهف، فناموا سنين كثيرة، والمقصود سددنا آذانهم عن سماع الأصوات بالنوم الغالب الذي يحول بينهم وبين السماع.
يقول: ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ [سورة الكهف:12] أي: من رقدتهم تلك، وخرج أحدهم... إلى آخره، ولهذا قال: ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ [سورة الكهف:12] المختلفيْن فيهم أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [سورة الكهف:12].
بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ [سورة الكهف:12] الله كما هو معلوم - يعلم ما كان، وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف يكون، لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ [سورة التوبة:47] ويقول عن المنافقين: لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِن قُوتِلُوا لَا يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنصَرُونَ [سورة الحشر:12] هذا فيه علم ما لم يكن أنه لا يكون، وأنه لو كان كيف يكون، هم وعدوهم بأنكم إن أخرجتم لنخرجن معكم، وأنكم إن قوتلتم لننصرنكم، فالله أخبرهم أنهم كذبة في هذا القول، وأنهم إن أخرجوا لا يخرجون معهم، وأنهم إن قوتلوا لا يقاتلون معهم، ولا ينصرونهم، وأنهم إن نصروهم - مع أنهم ما نصروهم - ليولنّ الأدبار ثم لا ينصرون.
فالله عالم بكل الأشياء، ويقول عن الكفار الذين يطلبون الرجعة في الآخرة: وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ [سورة الأنعام:28] فالله لا تخفى عليه خافية، وقوله - تبارك وتعالى - هنا: ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [سورة الكهف:12] ما المقصود بهذا العلم ؟ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أي: بعثناهم لنعلم علماً يكشف للناس حقيقة هؤلاء، أو المدة التي جلسوها في الكهف ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [سورة الكهف:12] هذا علم الظهور والانكشاف وإلا فالله يعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً، لا يخفى عليه من هذا شيء، ولكن المقصود هنا العلم الذي يحصل به الظهور والانكشاف، هذا المقصود: يعني للناس، وإلا فالله يعلم، كما قال الله : أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ [سورة التوبة:16] أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [سورة آل عمران:142] والمقصود بالعلم علم الوقوع، وليس ذلك يعني أن الله لا يعلم الصابر من غير الصابر، الله يعلم ذلك، ولكن الشيء والأمر الذي يحصل به الجزاء والحساب هو الوقوع والحصول، فهذا المقصود بمثل هذه الآيات، حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ [سورة محمد:31] بمعنى العلم الذي يترتب عليه الجزاء والحساب وهو وقوع ذلك الشيء وحصوله، وتحققه في الواقع، فالله لا يحاسب الناس بمقتضى العلم بما علمه منهم، وإلا فالله قبل أن يخلقهم عالم بما يكون منهم، ولكنه لا يحاسبهم بذلك، وإنما يحاسبهم بما جرى وحصل ووقع منهم.
فمثل هذه المواضع ينبغي أن يتبين طالب العلم المعنى المراد منها، ولا يلتبس عليه ذلك ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ [سورة الكهف:12] أي: المختلفيْن فيهم، يبقى النظر في هذين الحزبين من المقصود بهم ؟ بعضهم يقول: أهل الإيمان وأهل الكفر، وبعضهم يقول: هما فريقان من أهل الإيمان اختلفوا فيهم، من أهل زمانهم المعاصرين لهم، وبعضهم يقول: إن هذين الحزبين المشار إليهما في الآية هم من أهل الكهف؛ لأن هؤلاء اختلفوا، فمنهم من قال: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [سورة الكهف:19] وبعضهم قال: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ [سورة الكهف:19] فما اتفقوا على مدة متحدة معينة في بقائهم هذا.
وهذا القول لعله أقرب هذه الأقوال، وعلى كل حال بعضهم يقول: بين أصحاب الكهف وبين من فروا منهم ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [سورة الكهف:12] قيل: عدداً، وقيل: غاية، فإن الأمد الغاية، وإذا نظرت تجد أن أحد هذين القولين مستلزم للآخر، إذا عرفوا الغاية عرفوا المدة، والزمن الذي مكثوا فيه في هذا الكهف.
قوله تعالى: لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا [سورة الكهف:12] أحصى هذه تحتمل أن تكون أفعل تفضيل، يعني أكثر إحصاءً، ومن أهل العلم من يمنع في مثل هذا أن يكون للتفضيل، وبعضهم يقول: أحصى فعل ماضٍ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى [سورة الكهف:12] المدة التي بقوا فيها في هذا الكهف.
- أخرجه البخاري في الأدب المفرد (222- 639) بلفظ: وما قضيتَ لي من قضاء فاجعل عاقبته رشداً وصححه الألباني في الصحيحة (1542) وصحيح الجامع الصغير وزيادته (2/ 748).
- البيت للنابغة يخاطب النعمان، انظر: المعاني الكبير في أبيات المعاني (2/ 853) والمصون في الأدب (ص: 117) وغيرهما.
- أخرجه البخاري في كتاب اللباس، باب من كره القعود على الصورة (7/ 168-85) ومسلم في كتاب اللباس والزينة، باب لا تدخل الملائكة بيتاً فيه كلب ولا صورة (3/ 1665- 2106).