في قوله: وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا [سورة الكهف:80] يقول: أي يحملهما حبه على متابعته على الكفر، وقرأ ابن عباس: وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين وهي قراءة ليست من القراءات المتواترة على كل حال. فعلى قول من يقول بأن المميز مكلف بالإيمان، وأنه يحكم عليه بالإيمان أو الكفر، فيقول: هذا غلام مميز، فصدر منه الكفر، وإن كان لا يكلف بتفاصيل وفروع الشريعة والأعمال الأخرى، ومن يقول: لا تكليف إلا بالبلوغ فكما سبق بعضهم يقول: إنه أطلق الغلام وأراد به الرجل البالغ، وهنا في هذا الموضع غير صحيح؛ لأن الحديث دل على أنه وجد غلاماً يلعب مع الغلمان، ثم إن الظاهر المتبادر عند إطلاق الغلام أنه ما كان دون البلوغ، والقرآن إنما يحمل على الظاهر المتبادر، وقوله هنا: أي يحملهما حبه على متابعته على الكفر في تفسير فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا [سورة الكهف:80]، وبعضهم يقول: خشينا أن يرهق الوالدين طغياناً عليهما وكفراً بالعقوق، كفراً بنعمة الوالدين عليه بالعقوق. وعلى كل حال فمعنى أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا [سورة الكهف:80] أي: بكفره وطغيانه وتجبره وتكبره، وعتوّه على الله . قال ابن القيم - رحمه الله تعالى -: "وهذا الغلام الذي قتله الخضر يحتمل أنه كان بالغاً مطلقاً، وسمي غلاماً لقرب عهده بالبلوغ، وعلى هذا فلا إشكال فيه، ويحتمل أن يكون مميزاً عاقلاً وإن لم يكن بالغاً، وعليه يدل الحديث، وهو قوله: ولو أدرك لأرهق أبويه[3] وعلى هذا فلا يمتنع أن يكون مكلفاً في تلك الشريعة؛ إذ اشتراط البلوغ في التكليف إنما عُلم بشريعتنا، ولا يمتنع تكليف المراهق العاقل عقلاً، كيف وقد قال جماعة من العلماء: إن المميزين يكلفون بالإيمان قبل الاحتلام، كما قالت طائفة من أصحاب أبي حنيفة وأحمد، وهو اختيار أبي الخطاب، وعليه جماعة من أهل الكلام. وعلى هذا فيمكن أن يكون هذا الغلام مكلفاً بالإيمان قبل البلوغ، ولو لم يكن مكلفاً بشرائعه، فكفر الصبي المميز معتبر عند أكثر العلماء، فإذا ارتد عندهم صار مرتداً له أحكام المرتدين، وإن كان لا يقتل حتى يبلغ فيثبت عليه كفره، واتفقوا على أنه يُضرب ويؤدب على كفره أعظم مما يؤدب على ترك الصلاة، فإن كان الغلام الذي قتله الخضر بالغاً فلا إشكال، وإن كان مراهقاً غير بالغ فقتله جائز في تلك الشريعة؛ لأنه قتله بأمر الله، كيف وهو إنما قتله دفعاً لصوله على أبويه في الدين، كما قال: فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا [سورة الكهف:80]. والصبي لو صال على المسلم في بدنه أو ماله ولم يندفع صياله للمسلم إلا بقتله جاز قتله"[4]. وقد استدل بعض أهل العلم بقصة قتل الخضر للغلام على جواز حكم القاضي بعلمه، ونحن نعلم أن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا، والذي في شريعتنا أنه لا يحكم على الإنسان بمجرد العلم بإطلاق، ذكرت لكم قول النبي ﷺ: فأقضي له على نحو مما أسمع منه[5] ولم يقل: "بنحو ما أعلم" وهكذا أيضاً في أدلة أخرى يستدل بها على هذا، إلا أن القاضي يمكن أن يستعمل علمه، ويعمل بمقتضاه، ويحكم به في مواضع ثلاثة، منها: في الكلام على الشهود، أو في قبول شهادتهم وردها، فإن القاضي إذا كان يعلم أن هذا الشاهد غير أهل للشهادة بما يعلم منه، أو ما يعلم فيه من القوادح فله أن يرد شهادته، فيعمل بمقتضى علمه، هو يعرف هذا الإنسان من قبل، فلا يقبل شهادته، فعمل القاضي بعلمه هنا فيما يتعلق بالشهود. والأمر الثاني: وهو ما يتعلق بمجلس الحكم مما يصدر ويبدر من أحد الخصمين، فإن القاضي يلاحظ كلامه وأفعاله، فقد يرى منه أشياء تدل على كذبه، يستبينها من فلتات لسانه ونحو ذلك فيلزمه بها، ويقول له: أنت بحجتك هذه مبطل وكاذب، بناء على استنتاجات وأشياء سمعها القاضي منه، حينما تكلم وخاصم وأدلى بحجته فعرف كذبه من كلامه وتصرفاته، فحكم بمقتضى علمه بهذا الاعتبار لا بمقتضى العلم السابق، قد يكون عنده تصور أن هذا الإنسان كذاب نَفّاج، لا يرعوي ولا يتقي، فلا يحكم عليه بمقتضى العلم بأن دعواه كاذبة، وأن هذا الإنسان الذي يقابله صادق، إذن لا نقبل دعواك، ولا نسمع هذه الدعوى. الحالة الثالثة: وهي في القضايا المشتهرة التي يعرفها الصغير والكبير، ويستوي في معرفتها الناس، لا تحتاج أن يكون القاضي يعرفها، ثم بعد ذلك يكون هذا أمراً خفياً، كيف حكم القاضي عليه؟ وبناء على ماذا؟ وما هي المستندات؟ لكن في الأمور المعروفة التي يعرفها الناس، فإذا نشأ الناس في بلد مثلاً، وكلهم يعرفون أن هذه الدار موقوفة للأيتام، فجاء إنسان وقال: هذه ملك لي، فإذا جاء عند القاضي يطالب وقدم دعوى، فإن القاضي يقول له هذا الباب مغلق، ولا يسمع منه الدعوى أصلاً، ولا يقبلها منه؛ لأن هذا أمر معروف يستوي بمعرفته الجميع، فلا يكون ظالماً له بهذا الاعتبار حينما لم يسمع منه الدعوى. كذلك لو أنه جاء مثلاً إلى الطريق المعروف، كل الناس يعرفون أن هذا طريق، وجاء وقال: هذا الطريق ملكي، هذا الشارع ملكي ويريد تعويضاً، يقول له: من أين جاء ملكك؟ من يوم نشأت في البلد وهذا طريق، أو بئر معروفة قديمة الناس يستقون منها وهي وقف مثلاً، وجاء وقال: هذه البئر أنا الذي حفرتها، كيف حفرتَها، أنت عمرك عشرين سنة وهذه البئر لها مئات السنين؟! فهذا لا يسمع منه الدعوى، الأشياء المعروفة كمن جاء إلى وقف معروف، كل الناس يعرفون أن هذا وقف، وادعاه، أو جاء وادعى دار إنسان وكل الناس يعرفون أو أهل الحي يعرفون جميعاً أن هذه دار فلان، وهو الذي بناها، فجاء وقال: لا، هذه داري، أنا الذي بنيتها، وهذا جار القاضي، وجيرانه كلهم يعرفون أن هذا هو الذي بنى هذه الدار، ولا يخفى عليهم ذلك، فجاء إنسان وقال: لا، أنا الذي بنيت هذه الدار، وأنا أطالب بها، مثل هذا للقاضي أن يحكم بعلمه، في القضايا التي يستوي بها الناس، يستوون بمعرفتها، إذاً هذه ثلاث حالات. "والصبي لو صال على المسلم في بدنه أو ماله ولم يندفع صياله للمسلم إلا بقتله جاز قتله، بل الصبي إذا قاتل المسلمين قتل، ولكن من أين يعلم أن هذا الصبي اليوم يصول على أبويه أو غيرهما في دينهما حتى يفتنهما عنه؟ فإن هذا غيب لا سبيل لنا إلى العلم به؛ ولهذا علق ابن عباس - ا - الفتيا به، فقال لنجدة لما استفتاه في قتل الغلمان: إن علمت منهم ما علم الخضر من ذلك الغلام فاقتلهم وإلا فلا، رواه مسلم في صحيحه[6]." ونجدة - كما سبق - من زعماء الخوارج. "ولكن يقال: قاعدة الشرع والجزاء أن الله سبحانه لا يعاقب العباد بما سيعلم أنهم يفعلونه، بل لا يعاقبهم إلا بعد فعلهم ما يعلمون أنه نهى عنه، وتقدم إليهم بالوعيد على فعله، وليس في قصة الخضر شيء من الاطلاع على الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، وإنما فيها علمه بأسباب تقتضي أحكامها، ولم يعلم موسى تلك الأسباب مثل علمه بأن السفينة كانت لمساكين، وأن وراءهم ملكاً ظالماً إن رآها أخذها، فكان قلع لوح منها لتسلم جميعها، ثم يعيده من أحسن الأحكام، وهو من دفع أعظم الشرين باحتمال أيسرهما، وعلى هذا فإذا رأى إنسان ظالماً يستأصل مال مسلم غائب فدفعه عنه ببعضه فكان محسناً، ولم يلزمه ضمان ما دفعه إلى الظالم قطعاً، فإنه محسن وما على المحسنين من سبيل، وكذلك لو رأى حيواناً مأكولاً لغيره يموت فذكاه لكان محسناً، ولم يلزمه ضمانه، وكذلك كون الجدار لغلامين يتيمين وأبوهما كانا صالحاً أمر يعلمه الناس، ولكن خفي على موسى ، وكذلك كفر الصبي يمكن أن يعلمه الناس حتى أبواه، ولكن لحبهما إياه لا ينكران عليه، ولا يقبل منهما، وإذا كان الأمر كذلك فليس في الآية حجة على أنه قتْلٌ لما يتوقع من كفره، ولو قدر أن ذلك الغلام لم يكفر أصلاً، ولكن سبق في علم الله أنه إذا بلغ يكفر، وأطلع الله الخضر على ذلك فقد يقول القائل: قتله بالفعل كقتل نوح لأطفال الكفار بالدعوة المستجابة التي أغرقت أهل الأرض لما علم أن آباءهم لا يلدون إلا فاجراً كفاراً، فدعا عليهم بالهلاك العام دفعاً لشر أطفالهم في المستقبل، وقوله: وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [سورة نوح:27] لا ينافي كونهم مولودين على الفطرة الصحيحة، فإن قوله: فَاجِرًا كَفَّارًا [سورة نوح:27] حالان مقدرتان، أي: من سيفجر ويكفر." من يقول: إن الإنسان يكون مكلفاً بالإيمان إذا كان مميزاً فلا إشكال عنده، ومن يقول: إن الغلام أطلق على الكبير هنا فلا إشكال عنده، ولكن هذا بعيد. ويمكن أن يقال: الذي يعنينا في هذا الموضوع هو أن الغلام في هذه الشريعة ولو صدر منه الكفر فإنه لا يقتل، حتى لو قلنا بأنه مكلف بالإيمان، فإذا وقع منه ردة فإنه لا يقتل بذلك، والنبي ﷺ قد نهى عن قتل الصبيان، وما وقع من الخضر إما أن يكون ذلك من الجائز في شريعتهم، أو يكون ذلك فعله بأمر الله - تبارك وتعالى -، وإلا فموسى ، قد اعترض عليه؛ لأنه قتَلَ نفساً زكية بغير نفس، ولكن قد يقول قائل: إن موسى لم يعترض على الجواب لما قال له: فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا [سورة الكهف:80] ما قال له موسى : إنه غير مكلف أو نحو ذلك. وأيضاً مسألة الحكم عليه بمقتضى العلم هذا يرد عليه الإشكال السابق، والله يقول: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً [سورة الإسراء:15] والآيات التي يذكر الله فيها "حتى نعلم كذا" حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ [سورة محمد:31] وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ [سورة آل عمران:142] المقصود به علم وقوع الشيء الذي يترتب عليه الجزاء، فإن الله لا يؤاخذ الناس بمقتضى ما علمه وإلا فقد استخرج الناس من صلب آدم ، وخلق خلقاً للجنة، وخلق خلقاً للنار، لكن الله لا يؤاخذهم بمقتضى العلم؛ ولهذا فإن المجنون والذي لم تبلغه الدعوة الراجح أنهم يمتحنون في الآخرة. فالمقصود حتى أطفال الكفار الذين يموتون فالأحاديث التي وردت عن النبي ﷺ في بعضها أنه قال: الله أعلم بما كانوا عاملين[7] .وفي بعضها ما يشعر أنهم مع أهلهم، لهم حكمهم، وأنهم منهم، وفي بعضها ما يدل على أنهم في الجنة؛ ولعل النبي ﷺ قال في بعض المواقف بأنهم مع أهلهم وأنهم منهم، وأطلعه الله بعد ذلك أنهم في الجنة، هذا بالنسبة للصغار. وإن كان العلماء اختلفوا في المميز إذا اختار الكفر، أما الصبي غير المميز فإن الذي عليه كثير من أهل العلم من المحققين - وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، والحافظ ابن القيم، وجماعة - أنه يكون مع الأصلح من أبويه بالنسبة للدين، يتبع أمه في قضية الرق والحرية (في النكاح)، وبالنسبة للدين يكون مع الأصلح، فإذا كانت أمه مسلمة وأبوه غير مسلم، بمعنى أن رجلاً كافراً قد تزوج بامرأة كافرة فأسلمت المرأة فافترقا، فهؤلاء الأطفال يكونون مع من؟ يحكم لهم بمن؟ مع الأم، وإذا كان الأب هو المسلم والأم كافرة أُلحقوا بالأب، فالإسلام يعلو. على كل حال يمكن أن يقال هنا: إن ذلك وقع من الخضر بأمر الله له، قال: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [سورة الكهف:82] ومثل هذا يحفظ ولا يقاس عليه، وعندنا في هذه الشريعة أنه لا يجوز قتل الغلمان، ولا يؤاخذ الناس بمقتضى ما علم من حالهم كما سبق، هذا الذي يعنينا في الموضوع، أما لماذا قتله الخضر؟ هو يقول: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [سورة اكهف:82].
- أخرجه مسلم في كتاب الفضائل، باب من فضائل الخضر (4/1850- 172) (2380).
- أخرجه أحمد (33/405- 20283) وابن حبان (728) وأخرجه الضياء في المختارة (1815) وأخرجه هناد في الزهد (399) وأبو يعلى (4217) و(4218) والبيهقي في شعب الإيمان (9951)، والقضاعي في مسند الشهاب (596)، والضياء (1816) و(1818)، والذهبي في السير (15/342) وأخرجه أبو يعلى (4019) وصححه الألباني في صحيح الجامع الصغير (2/ 738- 3985).
- أخرجه مسلم في كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين (4/2050- 29) (2661).
- أحكام أهل الذمة (2/1044).
- أخرجه مسلم في كتاب الحدود، باب الحكم بالظاهر واللحن بالحجة (3/1337- 1713).
- أخرجه مسلم في كتاب الجهاد والسير، باب النساء الغازيات يُرضَخ لهن ولا يُسهَم، والنهي عن قتل صبيان أهل الحرب (3/ 1445- 138) (1812).
- أخرجه البخاري في كتاب الجنائز، باب ما قيل في أولاد المشركين (2/100- 1384) ومسلم في كتاب القدر، باب معنى كل مولود يولد على الفطرة، وحكم موت أطفال الكفار وأطفال المسلمين (4/ 2049- 26) (2659).