السبت 05 / ذو القعدة / 1446 - 03 / مايو 2025
إِنَّا مَكَّنَّا لَهُۥ فِى ٱلْأَرْضِ وَءَاتَيْنَٰهُ مِن كُلِّ شَىْءٍ سَبَبًا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ۝ إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا [سورة الكهف:83-84].

يقول تعالى لنبيه ﷺ: وَيَسْأَلُونَكَ يا محمد عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ أي: عن خبره، وقد قدمنا أنه بعث كفار مكة إلى أهل الكتاب يسألون منهم ما يمتحنون به النبي ﷺ، فقالوا: سلوه عن رجل طواف في الأرض، وعن فتية لا يدرى ما صنعوا، وعن الروح، فنزلت سورة الكهف.

وقوله إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ أي: أعطيناه ملكًا عظيمًا متمكنًا، فيه له من جميع ما يؤتى الملوك، من التمكين والجنود، وآلات الحرب والحصارات؛ ولهذا ملك المشارق والمغارب من الأرض، ودانت له البلاد، وخضعت له ملوك العباد، وخدمته الأمم، من العرب والعجم؛ ولهذا ذكر بعضهم أنه إنما سمي ذا القرنين؛ لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها.

وقوله: وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا : قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، والسدي، وقتادة، والضحاك، وغيرهم: يعني علمًا.

وقال قتادة أيضًا في قوله: وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا قال: منازل الأرض وأعلامها.

وقد قال الله في حق بلقيس: وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ [سورة النمل:23] أي: مما يؤتى مثلها من الملوك، وهكذا ذو القرنين يسر الله له الأسباب، أي: الطرق والوسائل إلى فتح الأقاليم والرَّسَاتيق والبلاد والأراضي وكسر الأعداء، وكبت ملوك الأرض، وإذلال أهل الشرك، قد أوتي من كل شيء مما يحتاج إليه مثله سببًا، والله أعلم.

فقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: وقد قدمنا أنه بعث كفار مكة إلى أهل الكتاب يسألونهم، الرواية الواردة في هذا لا تصح، وذو القرنين: العلماء مختلفون كثيراً في تحديده، فبعضهم يقول: هو الإسكندر الذي بني الإسكندرية، وبعضهم يقول: بل كان رجلاً قبله، كان ذو القرنين رجلاً قبل الإسكندر الذي بني الإسكندرية يقال له: الإسكندر أيضاً، قالوا: هما اثنان، فالإسكندر الذي بني الإسكندرية قالوا: إن هذا ليس بمؤمن، وإنه تلميذ لأحد الفلاسفة الكبار، بل قالوا: إن ذلك الفيلسوف كان وزيراً له، وقالوا: إن المقصود بذي القرنين هو إسكندر آخر كان زمن إبراهيم ، وبعض هؤلاء يقول: إن الخضر كان وزيراً له، وإنه مؤمن، وهذا ظاهر في هذه الآيات، ولكن متى كان ومن هو؟، أقوال المفسرين كثيرة في هذا، ولم يرد في تحديده شيء لا في الكتاب ولا في السنة الصحيحة، والذين قالوا: إنه الإسكندر الذي بني الإسكندرية قالوا: لا يشكل على هذا أنه تلميذ للفيلسوف أرسطو، فإنه قد يكون أخذ ما عنده من الصواب فإن علوم الفلاسفة ليست مردودة بعمومها، بل فيها علوم صحيحة مثل الطب والهندسة والرياضيات، والجبر، وما أشبه هذا، وهي من أصح علومهم، وأما علومهم الأخرى في الإلهيات فهم من أضل الناس في هذا الباب، وفي هذا كثير، يمكن أن يراجع فيه المطولات، والله تعالى أعلم.

والحافظ ابن كثير - رحمه الله - في البداية والنهاية ذكر كلاماً كثيراً في أقوال أهل العلم في تحديده يمكن أن يراجع، وكذلك بعض المفسرين مثل الشوكاني في فتح القدير.

يقول الحافظ ابن كثير - رحمه الله -: إنما سمي ذا القرنين؛ لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها. وبعضهم يقول غير هذا، بعضهم يقول: لأن له ضفيرتين، والضفائر يقال لها: قرون، وبعضهم يقول: لأنه دعا قومه إلى الله ونهاهم عن الإشراك، فشجوه على قرنه الأيمن، ثم دعاهم مرة أخرى فشجوه على قرنه الأيسر، فقيل له ذلك، وبعضهم يقول غير هذا، فيذكرون أقاويل كثيرة غير متفقة، وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا [سورة النساء:82]، كل ذلك مما تُلقي عن بني إسرائيل، وكذبهم كثير، ولا يعتمد على كلامهم، حتى إنهم يذكرون أقوالاً عجيبة غريبة لا يمكن أن تتفق مع غيرها من الأقوال المذكورة فلا يُطوَّل في هذا؛ لأنه لا طائل تحته.

وقوله: وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا، نقل هنا عن جماعة من السلف قال: يعني علماً، يعني علم ما يحتاج إليه، العلم الذي يتوصل به إلى مطلوبه في كل شأن من الشئون التي أعطاه الله إياها، وهذا يدل على التمكين والقوة، فالله - تبارك وتعالى - أعطاه من أسباب القوة والغلبة والمعرفة بالحرب، وعدتها، والممالك وما يقام به الملك، وما يحصل به قهر الأعداء إلى غير ذلك من الأمور التي يحتاج إليها، وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا، مما يقوم به سلطانه وتتحصل له به الغلبة على غيره، وقول من قال هنا: يعني علماً، يرجع إلى هذا، وهكذا قول من قال: أي منازل الأرض وأعلامها، فهذا عائد إليه وهو شيء مما أعطاه الله إياه، معرفة المحال والمسالك والممالك والطرق التي يتوصل بها إلى ما يريد، كل هذا مما أعطاه الله إياه ومكنه منه، أعطاه من أسباب القوة الشيء الكثير، فصار سلطانه شاسعاً واسعاً.

يقول: وهكذا ذو القرنين يسَّر الله له الأسباب، أي الطرق والوسائل إلى فتح الأقاليم، والرساتيق، المقصود بالرساتيق هي الموضع أو المكان الذي تجتمع فيه الدور والبيوت، أو تجتمع فيه الزروع والحروث، يقال لها: رساتيق، والبلاد والأراضي وكسر الأعداء وكبت ملوك الأرض، وإذلال أهل الشرك، قد أوتي من كل شيء مما يحتاج إليه مثله سببًا، ما يحتاج إليه مثله، هنا وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبً، فمِن هنا ممكن أن تكون تبعيضية، مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا، من كل شيء مما يحتاج إليه مثله، أما ما لا يحتاج إليه مثله فلم يُعطَ له، وأوضح من هذا ما قاله الله في ملكة سبأ: وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ يعني: مما يصلح لملكها، ولم تُؤتَ ملك سليمان ، وأضح من هذا قوله - تبارك وتعالى - في البيت: يجبى إليه ثمرات كل شيء يعني مما جرت العادة في جلبه للبيت، فكل هذا مما يسميه الشاطبي من العموم الاستعمالي، المعنى أنه لا يحيط بجميع الأفراد، فإذا دخلت "من" فهي للتبعيض فلا يرد السؤال أنه أوتي كل الأسباب مثلاً للقوة، قد يقول قائل: ما أوتي مثلاً الطائرات، والمراكب الحديثة، والأسلحة الحديثة، يقال: مما يصلح لمثله، آتاه الله مِن كُلِّ شَيْءٍ، فمِن وإن كانت تبعيضية، لكن أيضاً في نوع من العموم، مِن كُلِّ شَيْءٍ فكل من أقوى صيغ العموم، مِن كُلِّ شَيْءٍ معناها من كل لون من ألوان القوة والتمكين والمعرفة والعلم آتاه الله منه، ولم يُؤتَ من كل الأسباب الموجودة اليوم، لكن يقال: مما يصلح لمثله، فهذا هو الذي يقال له: العموم الاستعمالي، لمّا تقول لإنسان تخاطبه: الله قد أعطاك كل ما تريد فإذا كان هذا الإنسان لا يفهم، فإنه سيقول لك: لا، ما أعطاني كذا، وما أعطاني كذا، ما أعطاني ملكاً مثلاً، نقول: أعطاك كل ما تريد مما يصلح لمثلك، أو مما يُعطَى أمثالك وهكذا، الوالد يقول لولده: أعطيناك كل ما تريد، ما يقول له: ما أعطيتني كذا وكذا وكذا، ما أعطيتني مثل لباس أختي، لا يَفهمُ أن المراد ما يصلح لمثله.