الخميس 17 / ذو القعدة / 1446 - 15 / مايو 2025
يَٰيَحْيَىٰ خُذِ ٱلْكِتَٰبَ بِقُوَّةٍ ۖ وَءَاتَيْنَٰهُ ٱلْحُكْمَ صَبِيًّا

المصباح المنير
مرات الإستماع: 0

"وقال تعالى: يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا ۝ وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا ۝ وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا ۝ وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا [سورة مريم:12-15] وهذا أيضاً تضمن محذوفاً تقديره أنه وُجِد هذا الغلام المبشر".

القرآن نزل بلغة العرب، والعرب قد تحذف من الكلام اختصاراً؛ ثقة بفهم السامع، فهو دعا ربه أن يجعل له علامة لوقوع الحمل، فخرج على قومه أمرهم بالتسبيح، ثم قال: يَا يَحْيَى خُذِ لأنه وُجد الغلام، هذا الموعود به في الخارج، ومضى عليه مدة بعد ولادته؛ لهذا يقول ابن كثير - رحمه الله - وهذا أيضاً تضمن محذوفاً تقديره أنه وجد هذا الغلام المبشر به وهو يحيى ، وأن الله علمه الكتاب.

تقديره أنه وُجِد هذا الغلام المبشر به وهو يحيى ، وأن الله علمه الكتاب وهو التوارة التي كانوا يتدارسونها بينهم، ويحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا، والربانيون، والأحبار.

قوله: خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ الجمهور يقولون: الكتاب هو التوراة، ونقل بعضهم الإجماع، وهذا الذي اختاره المحققون من المفسرين، ومنهم كبير المفسرين ابن جرير - رحمه الله -، وبعضهم يقول الكتاب المقصود به الجنس أي جنس الكتاب، الكتب التي أنزلت على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، وبعضهم يقول: صحف إبراهيم، وبعضهم يقول: لعل المراد به كتاباً آخر يختص به هو، والكتاب الذي كانوا يتعبدون به، وأمروا بالعمل به هو التوراة، يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ فتكون أل هذه عهدية وليست للجنس، والكتاب المعهود عندهم هو التوراة.

"وقد كان سنه إذ ذاك صغيراً، فلهذا نوه بذكره، وبما أنعم به عليه وعلى والديه فقال: يَا يَحْيَىَ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوّةٍ أي: تعلم الكتاب بقوة أي بجد، وحرص، واجتهاد، وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً أي: الفهم، والعلم، والجد، والعزم، والإقبال على الخير، والإكباب عليه، والاجتهاد فيه وهو صغير حدث".

يقول: "وقد كان سنه إذ ذاك صغيراً" هذا الخطاب يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ لا يفهم منه أنه خوطب بذلك وهو صغير، ولكن الله أخبر بأمر، وأخبرنا بخبر أمره، فالآية ليس فيها ما يدل على أنه كان صغيراً، وإنما الذي أخبرنا الله عنه أنه حصل له منذ الصغر وهو قوله: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً فهذا الذي حصل له وهو صغير - والله تعالى أعلم -، ومن أهل العلم من قال في قوله: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً الصبي يقال للرجل الذي قد بلغ لكن هذا استعمال قليل، وغالباً ما يكون ذلك لمن يقصر عقله، ويرمى بالسفه ونحو ذلك، يقال له: صبي، وقد يقال له غلام مع أن غلام أليق في التعبير من صبي، إذا قيل لصبي فإنها قد تقال للمملوك، وللخادم، وتقال للرجل البالغ الذي يستهان به أيضاً: هلاك أمتي على يد أغيلمة من قريش[1]، ولكن الصبي يقال للكبير هذا قليل، وعادة يقال هذا لمن يسفه في رأيه، أو يكون لا شأن له، ولهذا يقال للخادم صبي، فلا داعي لحمل القرآن على خلاف الظاهر المتبادر الصبي هو الصغير، بعضهم يقول: كان قد بلغ السنتين، وبعضهم يقول: أربع سنوات، وبعضهم يقول: وهذا كله لا دليل عليه، لكنه كان صبياً، فكلمة صبي في اللغة إذا أطلقت تبادر أنها تقال للصغير - والله أعلم -.

وقال في قوله: يَا يَحْيَىَ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوّةٍ "أي: تعلم الكتاب بقوة أي بجد، وحرص، واجتهاد" أي وليس فقط تعلم الكتاب بقوة، والمقصود بالكتاب أي التوراة بقوة، وإنما أيضاً العمل به، والجد في ذلك دون تهاون، أو تراخي، أو تفريط خُذِ الْكِتَابَ بِقُوّةٍ الجد في العمل بكتاب الله - تبارك وتعالى -، والاشتغال به، وبتفهمه، وبدراسته.

والكلام الذي ذكره الحافظ ابن كثير على قوله: وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً ضمنه أكثر من قول للمفسرين في تفسير الحكم يقول: "أي: الفهم، والعلم، والجد، والعزم، والإقبال على الخير، والإكباب عليه، والاجتهاد فيه، وهو صغير حدث" يعني من أهل العلم من يقول: إن المقصود بالحكم أي الفهم والعلم بالكتاب هذا قول.

وبعضهم يقول: العمل به، والحافظ ابن كثير - رحمه الله - جمع بين القولين، وبعضهم يفسر الحكم بالحكم، وبعضهم يفسر الحكم بالنبوة، وبعضهم يفسر بغير هذا من الأقاويل كالعقل، ولكن إذا نظرت إلى هذه اللفظة وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ فإنها ترجع إلى معنى المنع، فالحكم والحاكم هو الذي يمنع أحد الخصمين من أخذ حق الآخر، والحكمة هي صفة تمنع صاحبها من الخطل في القول، والخلل في الرأي، ولهذا يقولون: الحكم هي الإصابة في القول، والعمل، وكذلك أيضاً يقال: المحكم من الكلام هو الذي سلم، ومُنع من أن يتطرق خلل في ألفاظه، أو معانيه، هذا من حيث الأصل في اللغة، حينما يوصف القرآن جميعاً بأنه محكم فإذا قال الله : وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ بعضهم يقول: العلم، وبعضهم يقول: الحكم هذا يرجع إلى هذا المعنى.

فالعلم والعمل يمنع صاحبه من الشطط، والزيغ، والانحراف، فيكون على طريقة سوية مستقيمة؛ لا يقع في خلاف ما تعلمه، وعلمه؛ من ترك العمل، ولا يعمل من غير علم، يكون ذلك حاجزاً له من مقارفة ما لا يليق، والمفسرون يذكرون بعض الإسرائيليات لكن لا يعول عليها أن الصبيان كانوا يدعونه للعب معهم، فيعرض عن هذا، ويأمرهم بالصلاة، وبعض أهل العلم فسر ببعض ما ذكر يعني مثل تفسير ذلك بالفهم، والعلم في كتاب، هكذا فسر ابن جرير - رحمه الله - هذه اللفظة آتيناه الحكم أي العلم، والمعنى - والله أعلم - أوسع من هذا، فمن حملها على هذا أرجعها إلى هذا الأصل، والشيخ محمد الشنقيطي - رحمه الله - أعاد هذه الأقوال، أو غالب هذه الأقوال إلى الفهم والعمل.

  1. رواه البخاري، كتاب الفتن، باب قول النبي ﷺ: هلاك أمتي على يدي أغيلمة سفهاء برقم (6649)، من حديث أبي هريرة .